مأزق المرأة الشاعرة (1)
"إن أية امرأة تولد بموهبة عظيمة لابد أن تصبح مجنونة، أو تنتحر، أو تقضي أيامها وحيدة في كوخ منعزل خارج القرية، نصف ساحرة، نصف عرّافة، يخشاها الآخرون ويسخرون منها. ذلك أننا بحاجة إلى قليل من الفهم لنتأكد من أن الفتاة الموهوبة التي تحاول أن تستخدم موهبتها لكتابة الشعر سيخذلها الناس ويعوقونها، وستعذبها وتمزقها غرائزها الشخصية المتناقضة، بحيث إنها لابد أن تفقد صحتها وسلامة عقلها".استعين بهذا الاقتباس من أقوال فيرجينيا وولف كمنطلق لسلسلة هذه المقالات، التي ليست بأية حال قراءة في "شعر المرأة" وآفاقه الفنية، بقدر ما هي استقصاء لمكونات الفكر الاجتماعي، ومحاورة للواقع الثقافي الذي تأسس فيه وعي المرأة بذاتها، وبالتالي هويتها الشعرية. أما اختيارنا لتعبير "مأزق" دون غيره من التعبيرات التقليدية المتاحة والأكثر مهادنة وحيادية فلعله يعود إلى الرغبة في التدليل على مدى ارتباط إبداع المرأة بالحَرَج والعَنَت، والقلق والاضطراب، إن لم يكن المحنة والمعاناة. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عملية الإبداع هي الوجه الآخر للاستعلاء بالذات والتميُّز، والخَلْق والإنجاز، وكلها معانٍ تعزز التجرؤ على السبق والتفوق والتنافس، في مجتمع لايزال يتأسس على فكرة تفوق الرجل وسيطرة قيمه الفكرية وثقافته الذكورية. وبذلك تغدو عملية الارتياد لطريق غير ممهد عملية منطوية على غير قليل من الكدح والمشقة.
لعله من المستحسن –في البدء- كمدخل لمقاربة هذا الموضوع إحالة القارئ إلى تفنيد عبدالله الغذامي في كتابه "المرأة واللغة"، وتحليله كيف استطاع الرجل أن يكون سيد الكتابة الأوحد بعد تنحية المرأة جانباً. وذلك حين حوّل اللغة من الملفوظ إلى المكتوب، ونقلها من واقعها الحسي إلى حالة ذهنية محضة. ويرى أن هذه النقلة حدثت بعد تطور الإنسان من "نظام الأمومة" إلى نظام "الأبوة"، أي مما هو حسي وفطري (الرحم المؤنث الذي يحمل ويحبل بالحياة بصورة حسية معلنة)، إلى ما هو ذهني (علاقة الرجل الذهنية الافتراضية مع نسله). وبذلك أصبحت المرأة خارج اللغة، وراح مسار اللغة الثقافي ينطلق بعيداً عن أصله المؤنث، وتحولت المرأة إلى "موضوع" ثقافي، ولم تعد "ذاتاً" ثقافية أو لغوية. ومنذ ذلك الإقصاء اللغوي/الصوتي للمرأة بدأ الرجل يشتغل على تأسيس أجناسه الأدبية، وتقنين شروطها وحدودها، وتأصيل أعرافها ومقاييسها الفنية، ما يعني الاحتكار التام للأجناس الأدبية، ووسمها بميسم الذكورة والفحولة، ابتداء من الشعر والخطابة، وانتهاء بالرسائل والأمثال والحِكَم وما سوى ذلك من فنون القول.إن قراءة المشهد الشعري النسوي في هذا السياق، يستدعي ولا شك الإشارة إلى جذوره الممتدة عبر التاريخ الأدبي والمتمثلة في نماذجه الأولى منذ العصر الجاهلي، ثم ما يليه من عصور أدبية مزدهرة، وصولاً إلى عصر الانحطاط الأدبي، ثم انتهاءً بالعصر الحديث.إن نظرة واحدة إلى أغراض الشعر، التي تأسست في العصر الجاهلي، ثم ما يليه من عصور، يعطي ملمحاً واضحاً عن مدى ذكورية الأعراف الشعرية، وصرامتها في الانتصار لقيم الفحولة والجموح، ابتداءً من الفخر والمدح والهجاء، مروراً بشعر الفروسية والحرب والطرد والخمريات، وانتهاءً بالغزل والنسيب والتشبيب. والغرض الأخير بالذات يكرّس ما سبق أن قيل عن تحول المرأة من "ذات" إلى "موضوع"، حيث يجري تضخيم الجانب الحسي في المرأة وتحويلها إلى مجرد جسد.وحيث إن المرأة تحولت من "ذات" إلى "موضوع"، فإن الشعر وهو فن لغوي ذهني لا حسي، لن يتأتى لها، حسب هذا الموروث، إلا ضمن شروط صارمة ذات علاقة بمفاهيم الأنوثة الخفِرة المتوارية، خفيضة الصوت، قليلة الأثر. ومن هنا جرى تحجيم الخطاب الأنثوي في الشعر، وتحديد انطلاقاته بهدهدة طفل، أو تفجّع على فقيد، أي في غرض الأمومة والرثاء. ليتناسب ذلك ومشاعر البراءة والاستسلام والانكسار التي غدت سمات بارزة لصوت الأنثى وملامحها. أما ما سوى ذلك من أغراض الشعر وفنونه، فقد كان مكروهاً صدورها من المرأة، وعادة ما يستدعي تجرؤها على القول في المحظور زجراً وتعنيفاً واضطهاداً.