آب شهر غريب في إيطاليا، تُهجر فيه المدن من أهلها إلى مدن الجبال والسواحل. شهر بطالة واستراحة. حين جئت مدينة بولونيا وجدتها مدينة أشباح. كان عزائي أني سأغادرها سريعاً إلى «بَزارو» Pesaro الساحلية على البحر الأدرياتيكي. هناك يُقام «مهرجان أوبرا روسّيني» السنوي. وإليه دُعيت ثلاث ليالِ من مجموع لياليه الأربع عشرة.

Ad

مدينة بَزارو التي لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألف نسمة تقع في الشمال الشرقي من إيطاليا، وتبعد عن بولونيا ساعة ونصف بالقطار البطيء والرخيص، الذي استخدمته. تدخلها بعد تجاوز مرتفعات جبلية يسيرة، لتجد المدينة القديمة كالعادة، على عهد التاريخ بها، مُحتضنة من قبل التوسع الحديث. المدينة القديمة تتمتع بشبكة خيطية من الطرق الضيقة، على خلاف شوارع التوسع الحديثة الممسطرة بوضوح واستقامة. الأولى تتمتع بسعة الخيال التاريخي (رومان قبل الميلاد، بيزنطيون، عصور وسطى، عصر النهضة...)، في حين تخضع الثانية للمنافع الواقعية، لكنهما يتجهان جميعاً، حيث يتجه الناس، إلى الساحل، حيث يمنح الناسُ أجسادهم عارية إلى الشمس، الماء ونقاهة الهواء.

هذه مدينة الموسيقي «روسّيني بامتياز (1792ـ 1868). وبالرغم من أن حياته الإبداعية لم تعرف مستقراً في مكان بعينه: بولونيا، فينيسيا، ميلان، فلورنسا، نابولي، فرنسا، انكلترا... إلا أن هذه المدينة كانت مكان مولده ونشأته. وبيته وسكنى عائلته (34 شارع روسّيني الذي يتوسط قلب المدينة القديمة) مازال، شأن كل مبنى في المدينة القديمة، موضع رعاية. طابقان مع قبو، لا تتوقف في أبهائه المتواضعة ألحانه المنتخبة من أوبراته العديدة. البيت يكاد يخلو إلا من صور شخصية وُضعت من قبل فناني تشكيل، طباعة، كاريكاتور وفوتوغراف. إلى جانب ركن احتفظ بآلة «سبِنَت» الموسيقية صغيرة الحجم، وهي تنتسب إلى عائلة «الهاربسيكورد» أو البيانو.  

أبرز نشاطات المدينة الصغيرة الثقافية هو مهرجانها الموسيقي العالمي «أوبرا روسّيني» ROF، الذي يتواصل سنويا في شهر أغسطس، منذ عام تأسيسه 1980، مدعوماً من مؤسسات عدة. المهرجان نشاط وطني يسعى، إلى جانب تعزيز موقع روسّيني عالمياً، إلى إعادة الثقة بأعمال عديدة منسية له. ولقد حقق المهرجان عبر السنوات ذلك، بفعل جاذبيته لأصوات مغنين ذائعي الصيت. لروسّيني 39 أوبرا، حقق شهرة عالية في زمنه، وفي أزمان تالية عبر أعمال معدودة منها، مثل «حلاق إشبيلية»، «سيندريللا»، «وليم تَل»، «سميراميس»، «عطيل»، ولكن العشرات الأخرى لم تكن تُلفت نظر دور العرض الأوبرالي في الغرب. إلى أن بدأ هذا المهرجان.

معظم العروض تتم في دار الأوبرا التاريخي الذي يتوسط المدينة القديمة. «مسرح روسّيني» ذو البهو الكلاسيكي (بني عام 1818) الذي تتعالى مقصوراته طوابق خمسة، متوجة بسقف دائري مزين بالزخرف واللوحات، ويتسع لـ850 مشاهدا. والعروض الضخمة تتم في «آرينا أدرياتيك»، وهي بهو حديث يقع خارج المدينة، يتسع

لـ1500. في هذا البهو الأخير شاهدت أوبرا «وليم تَل»، التي امتدت مع فرصتيْ الاستراحة ساعات خمس، وقد وضعها روسيني باللغة الفرنسية، السر الذي جعلها تحفل بعدد ملحوظ من رقصات الباليه. في حين شاهدت في المسرح الأول عملين كوميديين هما «إيطالية في الجزائر» و»فرصة لخلق لص»، أو «تبادل الحقائب». وفيهما تتجلى أريحية وخفة دام هذا الموسيقي البارع.

منهاج المهرجان يضم عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية، تقف الأوبرا (خمسة أعمال) على رأسها بالتأكيد. ولقد انتخبت لليالي الثلاث أوبرات ثلاث كانت جميعها بلغة لا أحسنها (الفرنسية والإيطالية). ولكن الأمر لم يكن حائلاً دون استنفاد المتعة التي يوفرها هذا الفن الموسيقي الرفيع. فأنا على معرفة مُسبقة بالأحداث، وموسيقى روسيني ليست غريبة علي. ولكن المهرجان كان يمكن أن ينجز ترجمة للحوار في الشاشة المخصصة، يعين فيها من لا يحسن اللغتين. ولكن السؤال «بأي لغة؟» يبقى معلقاً عصياً على الإجابة، فالجمهور خليط من إيطاليين وألمان وإنكليز وأجناس أخرى.