لم يحضر تاجر الألماس إلى محله الشهير في موعده المعتاد صباحاً... اتصل به عمال المحل ربما يخبرهم بعدم حضوره هذا اليوم مثلما يحدث عقب الليالي التي يسهر فيها حتى الصباح مع أصدقائه وشلته. المؤكد أنه يحتاج إلى نوم عميق بدليل أن هاتفه كان مغلقاً حتى الحادية عشرة صباحاً! في التوقيت نفسه كان رجال المباحث داخل بيته الصغير فوق هضبة المقطم بعد تلقيهم بلاغاً من خادمه العجوز بالعثور على جثة التاجر!
قال الخادم للضباط إنه يعمل في هذا البيت مع خادمة وطباخ منذ ست سنوات، وإنهم ينصرفون جميعاً في السابعة مساء كل يوم بعد أن يجهزوا كل ما يحتاج إليه الخواجة {جو} من متطلبات... ولا يحضرون إلا في الثامنة صباح اليوم التالي! وهذا الصباح بعدما دخلوا الشقة اكتشفوا الجريمة! سأل الضابط الخادم العجوز:* هل كل منكم معه مفتاح الشقة؟!** لا... أنا فقط معي المفتاح. وإذا حضرت الشغالة والطباخ قبل حضوري ينتظرونني على البوابة الخارجية لأن مفتاحها معي وحدي أيضاً! * هل يبيت الخواجة في هذا البيت بانتظام؟! ** أحياناً كثيرة يبيت هنا وأحياناً أخرى يبيت في العوامة التي يمتلكها على شاطئ النيل في الزمالك!معاينة المباحث بحضور النيابة العامة كانت تحمل أكثر من مفاجأة... فالبيت كان شديد الخصوصية، رائع الديكورات، معظم الإضاءات خافتة... وجميع النوافذ مغطاة بالستائر القطيفة غالية الثمن. أما غرفة النوم التي تحولت إلى مسرح للجريمة فكانت مصدر المفاجآت. الخزانة الخاصة بالخواجة مفتوحة بغير كسر وخالية من أية مجوهرات أو نقود؟ وفي الحجرة خزانتان... خزانة لملابس الخواجة وأخرى فيها ملابس نسائية متنوعة الأشكال والأحجام ومعظمها من قمصان النوم الشفافة وبعض الأطقم الجديدة التي لم تستخدم بعد! وكانت جثة الخواجة ممددة فوق سريره شبه عارية... وخنجر مسموم نفذ نصله في صدر الخواجة حتى القلب! والجثة بلا أية طعنات أخرى... يبدو واضحاً أن الجاني باغته بضربة الخنجر في لحظة من أشد لحظات الضعف التي كان عليها القتيل لحظة اغتياله! شيء آخر لفت انتباه فريق المعاينة هو وجود أعقاب سجائر فوقها آثار أحمر شفاه مما يرجح بشدة أن امرأة كانت في مسرح الحادث، سواء كانت مرتكبة الحادث وحدها أو شريكة لجان أو جناة آخرين! أمر آخر على قدر كبير من الأهمية... سفرة الطعام كانت عليها بقايا عشاء فاخر، لكن أكواب الشاي والمياه لا تشير إلا لوجود شخصين أحدهما صاحب البيت، ما يرجح هنا أن الجاني كان واحداً لا أكثر وبالتالي تكون صاحبة أحمر الشفاة هي التي كانت تشارك الخواجة ليلته الدامية! لكن كبير مفتشي المباحث لم يكن قلقاً لاعتماده على دليلين أثناء المعاينة قد يكشفان بشكل نهائي عن الجاني وملابسات الجريمة. الدليل الأول كاميرا صغيرة ثبتها الخواجة في مكان غير ظاهر داخل حجرة نومه وأخرى في مدخل الشقة. والدليل الثاني نقطة الدماء التي لم يتنبه إليها الجاني وهي تسقط منه على باب حجرة النوم وقد أصبحت بين يدي خبراء الطب الشرعي والمعمل الجنائي... أما البصمات التي تم رفعها من مسرح الجريمة فربما تكشف على رغم قلتها عن مفاجآت أخرى!ثلاث نساءأثبتت التحريات أن الخواجة الذي اقترب عمره من الخمسين عاماً غير متزوج. لقبه الناس بالخواجة لزرقة عينيه وبياض بشرته وإصفرار شعره ورشاقة قوامه والقبعة التي اعتاد أن يغطي رأسه بها! كثير النزوات والعلاقات الغرامية، محبوب من أصدقائه ومعارفه، إقامته شبه الدائمة في عوامة الزمالك حيث اعتاد إقامة الحفلات الخاصة لأصدقائه المقربين والتي تحييها فرقة موسيقية قديمة، ترقص في بعض فقراتها طالبة جامعية مغتربة ومن أسرة فقيرة في إحدى قرى الدلتا! أما كاتمة أسرار الخواجة وصديقته الوحيدة المقربة إلى قلبه وكانت تؤدي دائماً دور مستشاره الخاص فهي السيدة فكرية وهذا هو اسمها الحقيقي قبل أن تشتهر في الوسط الفني باسم الشهرة الذي عرفها الناس به قبل أن تعتزل بسبب إصابة إحدى عينيها بالعمى من جراء أزمة سكر كادت تقضي عليها. فعلاً، كانت فكرية أهم مصدر للتحريات وأكثر الناس حزناً وبكاء على تاجر الألماس المعروف! قالت الممثلة القديمة:* كان جو طيب القلب... يحترم المرأة التي تحترم نفسها ولا تبيع شرفها مهما كانت الإغراءات، لكنه كان يتسلى بالنوع الآخر من النساء... إذا ضاقت به الدنيا زارني وحكى لي عن أدق أسراره التي لا يبوح بها لمخلوق. كان وحيداً ويشبه نفسه دائماً بأنه مقطوع من شجرة. منذ ثلاث سنوات تقريباً أقلع عن نزواته وعلاقاته النسائية المتشعبة. تخلص من كل النساء اللاتي دخلن حياته بالألماس أو المال أو الهدايا. أقسم لكم أن حياته تغيرت مئة وثمانين درجة ولم تعد فيها غير امرأتين... إحداهما كان يحبها بجنون ومستعد ليدفع حياته وثروته مهراً لها إذا وافقت على الزواج منه! والثانية كانت تطارده وتبتزه وتعكنن عليه حياته وكان يعترف لي بأنه فشل للمرة الأولى في حياته في أن يبعد عنه امرأة!سأل مفتش المباحث فكرية:* من هي التي أحبها؟ ولماذا أحبها بجنون؟ ولماذا رفضت الزواج منه؟** اسمها منى... على رغم كراهيتها لزوجها الطبيب لم يسل لعابها لكل إغراءات الخواجة. كان يصفها دائماً بأنها تاج فوق رأسه. تعرف إليها عندما كانت تشتري بعض الحلي الذهبية متوسطة الثمن. أهداهما الحظ حواراً طويلاً متشعباً بسبب مشاجرة بالأسلحة النارية بين عائلتين كبيرتين في الشارع الذي يقع به محل الخواجة فأغلق أصحاب المحلات أبواب محلاتهم من باب التأمين. كانت منى ما زالت في الداخل ويبدو أن الحوار الطويل كان مقدمة لقصة حب رائعة عاشها معها الخواجة من دون أن تقبل منه هدية... أو يسيل لعابها أمام الألماس... ومن دون أن توافق على زيارته في بيته أو العوامة، أو حتى تسمح له بلمس يدها! قرر أن يتزوجها وكانت العقبة الوحيدة أنها متزوجة... وحكى لي أيضاً أنها تسعى إلى الطلاق من زوجها حتى ترتبط بالخواجة رسمياً وشرعياً!سؤال آخر وجهه مفتش المباحث إلى فكرية:* ماذا عن المرأة التي قال لك عنها إنها تبتزه وتطارده؟!** لا أعرف أكثر من أن اسمها فريال، وأنها جميلة وتعمل في إحدى شركات السياحة. تقيم في القاهرة بمفردها في شقة مكونة من حجرة واحدة ودورة مياه... تنفق على أهلها الفقراء للغاية في إحدى القرى في ريف الدلتا. تعرف إليها الخواجة منذ سنوات حينما حضرت مع أحد المدعوين في حفلة عيد ميلاد الخواجة التي أقامها في عوامته. حينما رقصت على أنغام موسيقى أغنية {دارت الأيام} يبدو أن الخواجة رأى فيها ما لم يره في امرأة أخرى. قال لي إن فريال لم تخرج من العوامة إلا بعدما اتفق معها على موعد من خلف ظهر الرجل الذي كانت في صحبته! وعلى رغم أنها استمرت على علاقة خاصة للغاية بالخواجة إلا أنه بعد أن تعرف إلى مدام منى قرر إنهاء خدمة فريال. لكن كان يؤلمه أنه فشل في التخلص منها بكل ما يتمتع به من ذكاء، وأسلحة مشروعة وغير مشروعة! كان يكرهها بقدر ما يحب السيدة منى. وكان مضطراً إلى الإنفاق عليها والاستجابة لكل طلباتها! هذا كل ما أعرفه عن السيدتين! * هل تدخن إحداهما؟! ** رأيت كل منهما مرة واحدة في مناسبتين مختلفتين... جلست مع منى أكثر من ساعتين وحينما قدمت لها سيجارة رفضت ونصحتني بالحفاظ على صحتي والإقلاع عن التدخين. أما فريال فقد دخنت علبة سجائر كاملة في ساعة زمن!عقد عرفيأمرت النيابة بأخذ عينة من دماء كل من السيدتين منى وفريال، إضافة إلى الخادمة فتحية والخادم العجوز والطباخ. مع مقارنة بصمات كل منهم بالبصمات المرفوعة من مسرح الجريمة... ومدى تطابق فصيلة الدماء مع أحدهم مع نقطة الدماء التي تم العثور عليها إلى جوار باب حجرة النوم. واستجوبت النيابة السيدة من بعدما رفضت الحضور أكثر من مرة ولم تستجب إلا بعد صدور قرار بضبطها وإحضارها. كانت منى لا تقوى قدماها على حملها وهي ترد على أسئلة المحقق:** نعم أحببته. اتفقنا على الزواج بعد أن تحكم لي المحكمة بالطلاق، لكني لست ساقطة حتى أزوره في عوامته أو فيلا المقطم وأنا في عصمة رجل آخر، حتى لو كان طلاقي من هذا الرجل قاب قوسين أو أدنى... المرأة المحترمة تحافظ على شرفها قبل أن تحافظ على شرف زوجها. المرأة الحرة تكون في كل لحظة تمر بها أمينة على جسدها سواء كانت زوجة أو مطلقة أو أرملة أو آنسة! مجرد حضوري أمامكم في هذا الاستجواب سيلصق بي شبهة يكون ثمنها فادحاً، لكنها ضريبة حبي لرجل قبل أن أطلق من رجل آخر!وحضرت فريال إلى النيابة واثقة الخطى. فجرت مفاجأة من العيار الثقيل في إجاباتها عن أسئلة المحقق:** أنا زوجته بعقد عرفي. كان يحتفظ بنسختي العقد معه بعدما أن سرق مني النسخة الخاصة بي. استغل نقطة ضعفي في حاجتي إلى المال وأغواني بالمجوهرات والهدايا... لا أنكر أنني مسؤولة أمام نفسي وضميري عن إضاعة دراستي الجامعية والشاب الذي كان يحبني وطلب يدي من أهلي وكان على وشك تقديم الشبكة. لكنه كان شاباً مكافحاً وفقيراً مثلي وكنت أعرف أن رحلة زواجي منه ستطول. كنت أدرس في الجامعة وأعمل في شركة سياحة تمنحني أجراً أتعيش منه. فجأة دعاني خطيبي للذهاب معه إلى سهرة في عوامة على النيل... كانت فرصة سال لها لعابي لرؤية ليالي الأثرياء التي تشهد عليها العوامات والبواخر العائمة والملاهي والكباريهات. مجتمع لا أراه إلا على شاشات السينما. جاءت الفرصة على طبق من ذهب لأن خطيبي كان صديقاً لأحد العازفين في الفرقة التي تحيي السهرات في عوامة الخواجة. كنت أظن أنها ليلة وتعدي! وفي الحفلة لم أتمالك نفسي مع الموسيقى. لم أشعر إلا وأنا أرقص إلى جوار المائدة الصغيرة في آخر القاعة حيث أجلس مع خطيبي... ارتفع تصفيق الحاضرين، وجذبتني إحدى السيدات نحو الفرقة الموسيقية. رأيت في عيون المدعوين إعجاباً بهرني ولحس عقلي. نسيت خطيبي مع مرور الوقت... كنت أتجاهله وهو يشير لي بالتوقف عن الرقص فوراً. كان الشر يتطاير من عينيه، لكني لم أحسب له حساباً. شعرت للمرة الأولى بأهميتي في عيون كبار القوم. دعاني الخواجة للعمل مع الفرقة مقابل أجر ثلاثة آلاف جنيه في الشهر. دارت بي الدنيا من ضخامة المبلغ. لم أتردد في الموافقة. قبل أن أغادر العوامة أشرف الخواجة بنفسه على تحرير عقد مع الفرقة الموسيقية للرقص يومين في الأسبوع! ثار خطيبي وتبرأ مني ولم أره منذ تلك الليلة. صور لي الشيطان أن الدنيا ابتسمت لي، خصوصاً حينما صارحني الخواجة بأنه سيعتزل كل النساء لأجلي. طلبت منه أن تكون علاقتنا في الحلال قبل أن يلمسني. فعلاً، تزوجنا بعقد عرفي. أصبحت زوجته وراقصته الخاصة. نعم، كسبت منه مبلغاً كبيراً ادخرته للزمن، لكني فوجئت ذات يوم بأنه وقع في غرام سيدة متزوجة. اكتشفت أيضاً أنه سرق النسخة الخاصة بي من عقد الزواج العرفي. حاول أن يبعدني عنه بالوعد والوعيد. نعم، كنت أضغط عليه للحصول على أقصى ما أستطيع من مبالغ وهدايا مقابل تمتعه بي بعدما أضاع مني الجامعة والشاب الذي أحبني. أكلني لحماً وأراد أن يرميني عظماً، لكني لم أفكر أبداً في قتله!* أحد العاملين في الفيلا قال إنه سمعك تهددينه؟! ** نعم. هددته أكثر من مرة. لكني لست مجنونة حتى أقتله لأني لم أكن أحبه ولا أغار عليه. وإنما علاقتي به لم تزد على كونها صفقة!* قال نفس الشاهد إنك هددتيه بسكين الفاكهة في إحدى المرات؟** حصل... كانت لحظة غضب. أغاظني ليلتها حينما سخر مني عندما سألني لماذا أريد الورقة العرفية التي سرقها مني. قلت له: لأنني سأتزوج؟ قهقه ضاحكاً فغلت الدماء في عروقي وهددته بسكين الفاكهة!* ما قولك في أعقاب السجائر المضبوطة في مسرح الحادث؟** لا علاقة لي بها. أحمر الشفايف فوق هذه الأعقاب لا يناسب بشرتي.على ذمة التحقيقأمرت النيابة بحبس فريال على ذمة التحقيقات، لكن جاءت كبرى المفاجآت في سطور تقارير الطب الشرعي وخبراء المعمل الجنائي. أكدت التقارير أن بقعة الدماء لا تخص فريال ولا منى ولا العاملين في الفيلا... كما أن بصماتهم جميعاً لم تتطابق مع البصمات المرفوعة من مسرح الحادث وهي بصمات لشخص واحد ويرجح أنها بصمات أنثى!النيابة أفرجت عن فريال وعادت القضية من جديد إلى نقطة الصفر... وبدأ البحث عن المرأة المجهولة التي دخلت وخرجت من فيلا الخواجة من دون أن يعرفها أحد من ضباط المباحث وأصدقاء القتيل ومعارفه. هل هي امرأة كان الخواجة يخفي سرها عن الجميع؟! أم امرأة من الساقطات اللاتي يصادقن الرجال لمدة ليلة واحدة! أسئلة ظلت حائرة فوق أوراق القضية رقم 312 في دائرة قسم الخليفة، ما دفع النيابة في النهاية إلى قيد الحادث ضد مجهول؟
توابل
دماء {الألماس} في فيلا المقطم
16-07-2013