Arab Idol
ظاهرة تستحق التأمل! آلاف الشباب من الجنسين يحتشدون أمام هيئات إعلامية ولجان فنية مهمتها الأساسية إجراء اختبارات لقياس المواهب الصوتية في فن الغناء. قد يُصاب أحدنا بدهشة صاعقة أمام هذه الظاهرة لسببين؛ أولهما يتعلق بتلك الأعداد المهولة من الشباب الذين تعلقت قلوبهم بالموسيقى وفن الغناء، تاركين وراءهم وظائفهم وجامعاتهم ومعاهدهم في سبيل حلم غامض ومغرٍ، وقد تعبأت أرواحهم بفرح نادر وإصرار أكثر ندرة. والسبب الآخر للدهشة هو تلك القدرة على تقمص الفرح وصناعته في وسط مملوء بالقلاقل السياسية والاضطرابات والدمار والفتن الطائفية والتطرف الديني والأهواء السياسية المشبوهة! وإن كنا قد شهدنا طوال العقود الأخيرة كيف يتم تفخيخ عقول الشباب وأجسادهم، واستغلالهم وقوداً لتوجهات مريضة وتطرف أشد مرضاً، فإنه لمما يثير الغبطة أن نعلم أن هناك أعداداً مهولة تعشق الغناء وتصنع الفرح بكل هذا الكم من الحماس والتنافس والإيمان برسالة الفن.
أنا شخصياً أشعر بالتفاؤل، وأرى إلى أي مدى تتوقد روح الشباب كالجمر تحت الرماد، متحينة الفرص لتبزغ وتشعّ ليس في الغناء فقط، وإنما في كل ما يعزز الأمل والجمال والخير، على الرغم من كل هذا الكم من الفوضى والدمار المادي والمعنوي الذي تفوح روائحه المنتنة على طول بلدان المنطقة وعرضها. على النقيض من معظم الأقلام التي تكتب في الزوايا الثقافية، ممن (يربأون!) بأنفسهم عن إظهار التعاطف والإعجاب بأمثلة هذه البرامج الاستعراضية ويرونها خارج نطاق مستوياتهم الفكرية، وقد يبرعون في تدبيج الهجائيات حولها، أقول بأنني - على النقيض - كنتُ متابعة جيدة لـArab Idol، وكان هذا البرنامج يسعدني ويفرح قلبي. فالمواهب متميزة والأصوات نادرة والأداء يتم بحرفية بالغة. يعزز ذلك اهتمام القناة الفضائية بالتفاصيل الأخرى في مجال الإعداد والإخراج والأزياء والمؤثرات الفنية، الأمر الذي يقود في النهاية إلى نجاح البرنامج ويصنع جماهيريته الكبيرة.ولعل الظاهرة التي تستحق الأخذ بعين الاعتبار أن "أراب أيدل" نجح في لمّ شمل أمة مستعصية على التقارب والتوحد. فعلى خشبة مسرحه كان يلتم المصري والعراقي والفلسطيني والسوري والسعودي والمغربية والتونسية والبحرينية... إلخ ضمن باقة نادرة من التعاون والتناغم! بل كان لتبادل الغناء باللهجات العربية المتنوعة دون استنكاف دور في تأكيد هذا التناغم الجميل الذي فشلت في تحقيقه السياسة عبر تاريخها الطويل. ثم يأتي فوز الشاب الفلسطيني محمد عسّاف بلقب "أراب أيدل"، ليضيف مغزى آخر لهذا المشهد الجميل. فقد كنا ومازلنا نرى في الفلسطينيين نموذجاً للشعب المنكوب، المنكفئ على آلامه وتاريخه النضالي الطويل، والمشغول بصناعة المقاومة وإحصاء الشهداء والمعتقلين لا غير.وكنا مسكونين جداً بهذه الصورة الصارمة المتجهمة حتى نسينا أن الفلسطينيين بشر أيضاً، وأنهم يحسنون صياغة الفرح ويطربون للموسيقى وينجبون المغنين تماماً كما ينجبون المناضلين والشهداء.وقد أتت رسالة موجهة من أحد المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية إلى إدارة البرنامج لتعبر عن تلك الرغبة في السماح له ولأمثاله بالتواصل مع هذا المشهد الحياتي، وكان وقعها مؤثراً وصادقاً. تزامنت كتابتي لهذا المقال اليوم مع مشاهدتي لبرنامج "أطراف الحديث" على قناة الشرقية العراقية، وكان ضيف الحلقة عازف العود الشهير "نصير شمة". وكالعادة لا بد أن يمتزج الحديث حول مسيرة الحياة والإبداع بالواقع السياسي والاجتماعي الراهن. وعلى قدر ما بدا الضيف مرهف الحزن إزاء ما يدور في وطنه من اضطرابات وفساد وقلاقل طائفية، بدا في الوقت نفسه مؤمناً بالدور الاستشفائي للموسيقى من كل هذه العلل النفسية والمحن الروحية. وهكذا تبقى للإنسان فطرته الأصيلة المرتبطة بروحانيات الفن وآفاقه، والتي تقوده لا محالة إلى التوازن كلما تطرّف الواقع الحياتي واكفهر واختلت موازين الحياة السوية. ولعله قانون البقاء للأجمل والأنفع هو الذي يسير في النهاية إرادة الشعوب ويشذب أوزارها وآثامها.