أبدأ هذه الصفحة من الذكريات كما بدأنا الصفحة الأولى منها بالتساؤل عما إذا كانت ستنشر أم لا، أو إن كان لي حق في كتابتها؟ ولكن كما أسلفنا أنها أحداث مرت وتجاوزها الزمن، وغدت حديثا للذكريات.

Ad

منذ أكثر من عامين وعالمنا العربي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه يشهد ثورة تعرف بـ"بالربيع العربي" الذي حصد أرواح آلاف الضحايا في كل المدن التي مر عليها، وكم هو مؤلم أن نجد من أبناء الوطن من يتمنى نقل ذلك الربيع إلى الكويت الغالية بكل ما فيه من عواصف سوداء، وبرق ورعود، وسيول جرفت الأخضر واليابس، وهلكت الزرع والضرع، وانقسمت تلك الأوطان إلى كتل متناحرة، وهان الوطن وكرامته وأرواح أبنائه في سبيل الاحتفاظ أو الاستحواذ على كرسي الحكم، واستخدمت جميع أنواع الأسلحة من أجل ذلك ابتداءً من الرشاش مروراً بالصواريخ والراجمات وصولاً إلى السلاح الكيماوي.

في خضم هذه المعارك والصراعات من أجل الاحتفاظ أو الاستحواذ على الحكم تنقل لنا الأخبار نبأ تنازل الملكة "بياتريكس" ملكة هولندا عن الحكم، وقد خرج الآلاف بل الملايين من الشعب الهولندي في وداع الملكة بالورود والأزهار ورفعوا الأعلام تحية شكر وتقدير لصاحبة الجلالة التي أدركت أن الأوطان أهم وأبقى من الأشخاص، فأين نحن من ذلك؟ وكم نحتاج من السنين في عالمنا العربي لندرك ذلك؟

في تلك اللحظة التي غادرت فيها جلالة الملكة المعظمة شرفة القصر لإفساح المجال للعائلة الملكية الصغيرة لتولي المسؤولية الأدبية في إدارة البلاد، في تلك اللحظة خطرت على البال تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام جلالتها لإلقاء كلمة موجزة، وذلك أثناء تقديمي أوراق اعتمادي سفيراً لدى ذلك البلد الصديق هولندا في الفترة ما بين 2007- 2010، وكان يرافقني كل من الإخوة عمر القناعي وطلال الهاجري ونائل الهين.

وبعد انتهاء المراسم الرسمية دعتني جلالتها للجلوس في لقاء استمر ما يقارب العشرين دقيقة، وقد بادرتني بالاستفسار عن الخطوات التي تم اتخاذها لحل مشكلة "البدون"، حيث توجد في هولندا مشكلة مشابهة لذلك، أبدت إعجابها بالتجربة الديمقراطية في الكويت مع التأكيد أن سوء استخدام هذا الأسلوب قد يؤدي إلى تراجع التنمية، جرى هذا اللقاء في قصر الحكم.

أما اللقاء الثاني مع جلالتها فقد كان في قصرها الخاص، وذلك لوداعها بعد انتهاء مهمتي في هولندا، وقد كان لقاء فيه الكثير من الود والتقدير للكويت ونظامها، وقد أسهبت بالحديث عن إعجابها بما حققته المرأة الكويتية من خلال توليها المناصب الوزارية والنيابية، وأبدت أسفها لعدم زيارة أي دولة من دول مجلس التعاون.

أتمنى من كل قلبي الصحة والسعادة لجلالة الملكة "بياتريكس" في حياتها الخاصة، ولمملكة هولندا الصديقة المزيد من التقدم والرخاء، وللعلاقات بين البلدين المزيد من التطور، خصوصاً أن لها جذوراً في التاريخ، حيث يحتوي الأرشيف الهولندي على الكثير من الوثائق التاريخية التي تتحدث عن تاريخ منطقة الخليج العربي، وقد قام الأستاذ ب. ج. سلوت رئيس الأرشيف الهولندي بالاعتماد على هذا الأرشيف لتأليف كتاب "نشأة الكويت" الذي صدر أثناء فترة الاحتلال العراقي الغاشم لبلدنا العزيز، والذي أثبت من خلال الوثائق والخرائط الهولندية التاريخية استقلال الكويت منذ نشأتها، كما قام د. سلوت بتأليف الكتاب الثاني "مبارك الكبير"، الذي يتحدت عن دور الشيخ مبارك الكبير في إبراز الكويت ككيان سياسي مستقل، حيث استطاع القيام بتوقيع اتفاقية الحماية مع أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت في حين لم تتمكن من ذلك العديد من دول المنطقة في فترة من أدق الفترات في تاريخ المنطقة التي كانت تشهد تنافساً قوياً بين الدول العظمى: الدولة العثمانية وبريطانيا وألمانيا.

وقد قام مركز البحوث والدراسات الكويتية الذي يرأسه الأستاذ الفاضل د. عبدالله الغنيم بإصدار الكتابين المذكورين هذين، وقد سعدت بالتعرف على د. سلوت من خلال أخي العزيز سليمان العنيزي المستشار في المركز، والذي يرتبط بصداقة قوية معه، وكان لنا جلسة طويلة في منزلي بمدينة لاهاي، وكان محور الحديث الكويت الغالية تاريخها ونشأتها... وكم سعدت بقيام الأخ العزيز سليمان بإهدائي هذه المجموعة القيمة مع بعض الكتب التي قام المركز بإصدارها .

- ما الفرق بين سنة الهدامة... وسنة "الداو"؟ في كليهما حدثت مأساة؛ ففي ديسمبر من عام 1934 شهدت الكويت هطول أمطار غزيرة لم تشهد لها البلاد مثيلاً أدت إلى هدم أكثر من 300 بيت وشردت أكثر من 18 ألفاً لجؤوا إلى المدارس والمساجد والمباني الحكومية، وأصيب العديد من المواطنين، وخسرت الكويت الملايين من الروبيات في ذلك الوقت الذي كان يشهد شحاً في الموارد المالية، ولكنها إرادة الله الذي لا راد لقضائه.

وفي مايو من عام 2013 حدثت مأساة ما عرف بـ"صفقة الداو" ونظراً لثقافتنا الاقتصادية والمالية التي لا تتجاوز معرفتنا باللغة اليابانية والصينية، فإني لن أتحدث عن تلك الصفقة، ولكن لدي استفسار واحد وهو: إن كانت الصفقة غير جيدة ولا تخدم مصالح البلاد فلماذا تم التوقيع عليها؟ وإن كانت جيدة وتخدم مصالح البلاد، فلماذا تم إلغاؤها؟ ومن هما طرفا النزاع في التوقيع والإلغاء؟ ولا نريد أن نكون سيئي النية بالتساؤل عن السبب في وضع هذا الشرط الجزائي، وبهذا المبلغ وهل كانت النية مبيتة للإلغاء؟

دعاؤنا لله دائماً بأن يحفظ الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.