سورية لعزمي بشارة... درب الآلام نحو الحرية
يحاول المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في كتابه الجديد {سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن} (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت)، إضافة قراءة نوعية وداخلية في فهم الثورة السورية، على امتداد عامين. منذ 15 مارس 2011 حتى مارس 2013.
يقول عزمي بشارة في تمهيده لكتابه {سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن}: {يؤرخ الكتاب لتمدّد الثورة واكتساحها المناطق المختلفة في مرحلتيها المدنية السلمية والمسلحة}، متطرقاً إلى {استراتيجية قمع الثورة وتوليد أنماط عنف سياسي {غير مألوفة}. ويضيف {إننا ندرك تعقيد {المهمة التي أخذنا على عاتقنا القيام بها. لكن لا بد من البحث في مسالك الراهن الوعرة وزواياه غير المكتشفة وطرقاته التي يغطيها أحياناً ضباب الشائعات والأفكار المسبقة، والتي تخلط الحقيقة بالخيال علاوة عن الكذب الصريح في حالات كثيرة}. وهو يؤرخ لسنتين خلالهما ظهرت بوضوح الأسباب العميقة لانفجار حركة الاحتجاجات في سورية، وتفاعلت في أثنائها جميع العناصر المحرِّكة الأساسية، اجتماعية كانت أو سياسية أو جهوية أو طائفية، ثم انفرجت الأمور عن مشهد سورية الدامي اليوم وعن درب الآلام الطويل نحو الحرية.
سياق مترابطيجمع كتاب بشارة بين التوثيق بالسوسيولوجيا والاقتصاد والإستراتيجيات في سياق تاريخي مترابط، وبمنهج التحليل الاجتماعي التاريخي معًا. يؤرّخ للثورة السورية في مرحلتيها: المدنية السلمية والمسلحة، ثم يرصد مظاهر الإستراتيجية التي اتبعها النظام السوري القائمة على قمع الثورة بالعنف الدامي والمتمادي سواء بالقصف أو من خلال المجازر، الأمر الذي أدى إلى توليد أنماط من العنف لم تكن مألوفةً قط في سورية، ثم يتحدث بالتفصيل عن الوقائع المتحركة التي شبّت في المدن الرئيسة في سورية، وكيف بدأت الحوادث سلميةً ثم انتقلت إلى العسكرة وحمل السلاح لاحقًا. كذلك يبين الكتاب مسؤولية النظام المباشرة عن انزلاق الثورة إلى الكفاح المسلح كإستراتيجية، بعدما كان استخدام السلاح مقتصرًا على حالات متفرقة من الدفاع عن النفس أو غيره.ويحاول بشارة إعادة إنتاج تطور أعمال الاحتجاج السلمية وبنيتها إلى ثورة وطنية شاملة ضد الاستبداد. ويعتبر أن الحركة الاحتجاجية انطلقت في سورية بشعارات إصلاحية سياسية توجهها قوى سياسية معارضة وهيئات مدنية مؤلفة من فئات اجتماعية شابة مغتربة عن أيديولوجية الدولة وثقافتها، وهي تتوق إلى التحرر من الدولة الأمنية، ومتأثرة بالأجواء الثورية والربيعية في المنطقة العربية.لكن الزخم الشعبي الرئيس للثورة جاء على خلفية اتساع القطاعات الاجتماعية المتضررة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام. وتجاوزت هذه الفئات، أول مرة، حاجز الخوف الذي يحكم به النظام الأمني لأن الوضع العربي صوّر لها إمكانية التغيير هذه المرة بشكل عملي في دول عينية. وما إن خرجت هذه القطاعات الاجتماعية احتجاجاً على أوضاعها، أو تضامناً مع أبناء شعبها الذين تعرضوا للقتل والتنكيل حتى تفجرت مشاعر المذلين المهانين المتراكمة طوال عقود. دخل العامل الجيوستراتيجي في الثورة بقوة فما كان ممكناً أن يصمد النظام لولا الدعم الروسي والتحالف الإيراني العضوي مع سورية. ومن الواضح أن جدول أعمال روسيا هو استعادة دورها باعتبارها قوة عالمية وعدم تكرار تجربة ليبيا بعد تراجع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. أما إيران فتهدد الثورة العربية منجزها التاريخي الذي لم يمض على تحقيقه بضع سنوات وهو شريط من النفوذ الإيراني شبه الإمبراطوري والممتد من إيران مروراً بالعراق وسورية ولبنان إلى البحر المتوسط، وإلى موقع المُحاور مع الغرب كدولة إقليمية في القضايا المركزية التي تهم الغرب وهي الصراع العربي الإسرائيلي. أرياف مهمشةيدحض الكاتب المقولة الشائعة عن أن الثورة السورية هي ثورة أرياف مهمَّشة، ويبرهن أنّها بدأت أولاً في المراكز المدينيّة للأطراف، ثم امتدت إلى الأرياف المهمشة في ما بعد.ولعل قراءته اللافتة للقاعدة الاجتماعية التي استند إليها حزب البعث هي إحدى أعمق القراءات في هذا الحقل المعرفيّ، فقد تناول عملية الترييف وما نتج منها من {لبرلة} اقتصادية، ما أدى، في ما بعد، إلى انقلاب هذه القاعدة على البعث نفسه، وصعدت، جرّاء ذلك، فئة {الذئاب الشابة}، واستقر ما يسميه الكاتب استعارة بـ {نظام التشبيح والتشليح} على صدور الناس.يعرض عزمي بشارة حصاد عشر سنوات من حكم بشار الأسد، إذ بدأت إرهاصات الاحتجاجات تتبرعم في هذه الحقبة. ثم ينتقل إلى الشرر الذي اندلع في مدينة درعا وسرعان ما تحوّل لهيبًا، وإن ظل في إطاره السلميّ في البداية. وينثني الكاتب إلى إعادة رواية الوقائع وتحليلها في كل مدينة مثل حماة وحلب ودمشق والرقة ودير الزور وإدلب وحمص. وخلال ذلك يدقّق في بعض الوقائع، وينفي صحة وقوعها إذا لزم، ويفنّد بعض المقولات الشائعة إذا لزم أيضاً. ثم يتصدّى لدراسة إستراتيجية النظام السوريّ وبنية خطابه السياسي والإعلامي، ويكشف اللثام عن الاستبداد وعن المجازر والخطف ومسارب الطائفية والعنف الجهادي، ويتناول منزلقات العنف المسلح إلى نشأة ظاهرة أمراء الحرب وفوضى السلاح، قبل أن يعرض للحراك السياسي لدى المعارضة والفاعلين الجدد (التنسيقيات) والمبادرات الدولية لحل المشكلة السورية.يعطي بشارة الكثير من النظريات حول الربيع العربي والذي انغمس فيه بقوة منذ البداية، ويعتبر أنه كان على النظام السوريّ أن يتغير أو أن يغيره الشعب. وأكثر ما يخشاه الكاتب هو أن تنتهي الأمور إلى احتراب طائفي وتسوية طائفية تحفظ لجميع الطوائف حصصها السياسية من دون أن يتغير النظام. لذلك يدعو إلى تأسيس سورية على أساس الديمقراطية، أي دولة جميع المواطنين من دون التخلي عن الهوية العربية للغالبية. وهو في هذا الميدان يدعو إلى التسوية، لكنّها تسوية تتضمن رحيل النظام وبقاء الدولة، لأن من دون هذه التسوية ستتحول الثورة إلى قتال طائفي وإثني، وتتحول سورية إلى دولة فاشلة حتى مع هزيمة النظام.