دفعت الكويت قبل أيام إحدى أكبر الغرامات المالية عالمياً إلى شركة داو كيميكال، على خلفية إلغاء مشروع "كي- داو" المتخصص في صناعة البتروكيماويات. وهذه الغرامة التي تجاوزت مليارَي دولار أعادت إلى الأذهان الخلاف السياسي الذي سيطر على أجواء الصفقة بين الحكومة ومجلس الأمة في نهاية ديسمبر 2008، والذي انتهى بقرار مجلس الوزراء إلغاء المشروع قبل ساعات من موعد توقيعه.

Ad

لم تكن صفقة "كي- داو" المشروع الاقتصادي الأول الذي يدخل نفق الخلافات السياسية، وينتهي من مشروع مستقبلي إلى ماضٍ مسجل في الأوراق، فهناك مشاريع عديدة، لم ترَ النور، انتهت مع أول تهديد بكلمة استجواب لرئيس وزراء أو وزير، بغض النظر عن الرأي الفني فيها أو الجدوى الاقتصادية التي قد تحققها تلك المشاريع.

ولا خلاف على أن لمجلس الأمة الدور الرقابي الأهم في النظام السياسي العام بالإضافة إلى التشريع. فالرقابة والتشريع هما عصبا عمل المؤسسة البرلمانية، وما بين الرقابة البرلمانية السليمة والابتزاز السياسي شعرة فاصلة تغيّر من الآلية وتحوِّلها من أداة للمصلحة العامة إلى معول هدم، ومثل هذا السلوك سيطر كثيراً على الأداء البرلماني في الفصول التشريعية الأخيرة، وفي المقابل فإن السلطة التنفيذية واجهت هذا السلوك بالاستسلام والقبول والتراجع والتنازل.

حادثة مشروع "كي- داو" منذ البداية إلى نهاية دفع الغرامة المليارية درس ثقيل على النظام السياسي في الكويت. وهذا الدرس لا يقف عند حدود المبلغ الذي دُفِع من المال العام، بل يمتد إلى ما هو أبعد وأهم من ذلك، ويطرح تساؤلات قديمة تتجدد مع كل أزمة مشابهة، مَن سيتحمل المسؤولية الجنائية عن تكبيد الدولة الغرامة؟ ومن سيتحمل المسؤولية السياسية عن هذا القرار، سواء من قِبَل الحكومة التي أصدرته، أو النواب الذين ضغطوا لإلغائه؟ أم أن الحادثة بكل تفاصيلها ستمر مرور الكرام شأنها شأن ملفات كثيرة أغلقت وقيدت ضد مجهول؟

وعكست القضية الأخيرة أهمية النص الدستوري للمادة 50 بأنه "يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات مع تعاونها"، فحين يغيب التعاون بين سلطتي التشريع والتنفيذ، ويحل محله الابتزاز والمساومات السياسية، تنتهي النتيجة إلى ما يشبه ما انتهت إليه "الداو". وحين تقرر الحكومة أنها أسيرة الأدوات الرقابية بغض النظر عن آراء أجهزتها المتخصصة، والتمسك بمواقفها وقرارات أجهزتها، فإن الدولة ستقف في محلها وتتراجع ولن تتقدم. وحين يقرر أعضاء البرلمان التعامل مع القضايا المتعلقة بالمشاريع الكبرى كأي معاملة تحتاج إلى واسطة في وزارة، فإن الدورين الرقابي والتشريعي سيكونان حاجزَين أمام تنمية مستقبل الدولة.

ولعل غياب التعاون بين السلطتين في المجالس الماضية أحد أهم أسباب وقف عجلة خطط التنمية التي تضعها الحكومة، مع التأكيد في الوقت ذاته أن كثيراً من تلك الخطط يحتاج إلى متابعة ورقابة برلمانية حقيقية بعيداً عن التكسب السياسي والانتخابي في معارضته، واستمرار هذا الحال سيخلق ألف "داو" وعشرات الغرامات التي ستدفع من المال العام وأموال الأجيال القادمة.

بعد أن طوي ملف "الداو"، فإن الدولة أمام مفترق طرق، فإما أخذ العبر من تلك الحادثة، والحديث هنا يشمل جميع الأطراف، مع جعل المصلحة العليا للدولة نصب الأعين في رسم القرارات عن طريق التعاون والشفافية لتبحر سفينة الدولة، بحيث يقوم أعضاء البرلمان بدورهم الحقيقي في تطوير التشريعات لما يخدم الأجهزة الحكومية فضلاً عن دورهم الرقابي، أو أن تستمر المنازعات السياسية على حساب المصلحة العامة ومستقبل الدولة ليغرق "الداو الكبير" من جديد.