هذه الرواية هي سيرة الكاتبة أناندا ديفي التي ترجمها إلى العربية الشاعر المبدع الصديق د. شربل داغر، حيث أثراها بهذه الترجمة الأمينة على النص والتي أضافت إليها روحاً شعرية عالية وإحساساً متوهجاً رهيفاً آتياً من قلب الشاعر المترجم لها، وهو ما ينعكس دائما على نصوصه المترجمة، وأشهرها ترجمته الرائعة لديوان الشاعر الفرنسي رامبو المسمى بـ «العابر الهائل بنعال الريح».

Ad

لعل هذه السيرة انعكاس لكل سيرة النساء على الأرض، فالرجال الذين يحادثون المؤلفة ليسوا إلا زوجها وابنيها الذين يحاكمونها طوال الوقت، وهو ذات الأمر الذي تواجهه كل امرأة في أسرتها سواء كانت الأسرة صغيرة أو كبيرة، فكل أخطاء حياتهم تقع على رأس المرأة الزوجة والأم، خاصة بعدما يكبر الأبناء ولا يعودون بحاجة إلى رعايتها المباشرة، وقد التحمت معها في سيرتها وأحسستها للنخاع فكلنا لنا الرجال وأضيف إليها النساء أيضا، باعتبار أن الكاتبة لم تخلف البنات، وكلهم يحاكموننا عندما يكبرون ويسقطون كل أخطاء حياتهم علي رؤوسنا، لأن الأم هي «حمال الأسية» لكل أعباء الأسرة هذا هو قدرها، لكن أناندا ديفي لم تتحمل ضغطهم حتى وإن كانوا يحبون بعضهم بعضاً، ففي النهاية كانت تبحث عن ذاتها الضائعة بينهم و»المهروسة» تحت ضغوطهم التي أتعبتها ودفعتها للانتحار أكثر من مرة حتى انتهت بمغادرتها لمنزلها والسكن في شقة وحدها.

أهمية هذه الرواية أو السيرة أنها تكشف عن عمق وتأثير هذه العلاقات المقربة والقريبة منا، التي تجعلنا نعيد النظر في علاقتنا وحياتنا مع أقرب الناس إلينا، خاصة بعدما يكبر الأبناء ويبدؤون في محاكمة أمهاتهم على الغالب، فهي الأقرب إلى التأنيب خاصة أمهات زمن الديمقراطية والصداقة مع الأبناء الذي أزاح هيبة سلطة الأم ووضعها في خانة الصديق القابل للوم والإدانة والمحاكمة.

وربما لأن المؤلفة كاتبة بروح شاعرية فنانة فإنها لم تتحمل ولم تطق ضغوط الزوج والأمومة التي استلبتها وجودها وكينونتها الفنية التي هي بحد ذاتها مستعمرة وممتصة لكينونة الكاتب حتى بدون إرادته، مما يضاعف الضغوط النفسية عليه، وهذا ما جعلها كما كتب شربل داغر عنها: «لا تروي بقدر ما تعترف، لا تسرد بقدر ما تبوح، في سرد يقيم علاقة شفافة بين الأدب والحياة، وهذا ما يتضح فيما تعيش، وفيما تكتب، من دون أن يتبين مقدار الشهادة الشخصية من مقدار التخيل السردي، إذ إن في لغتها، بناء جملتها، في نبرة الكلام، ما يجعل الانفعال صادقا، عابرا لمسام الحروف، الكتابة بحد السكين، إذا جاز القول، عما ينغص العيش اليومي، عما يجعل الحائط الفاصل بين الزوج والزوجة، بين الأم وابنها المراهق، أبعد من جزيرة نائية، وأعمق من محيط، الكتابة عما يخفي ويعمل فينا، عما يخرج منا بفجاءة عنيفة، فننكره بينما يسحب أعصابنا من جلدنا... إنهم يحادثونها إلى درجة أنها لا تميز تماما بينهم وبين رجال في حياتها، ذلك أنها تعيش في الكتاب، في كتابها، في كتب غيرها، أكثر مما تعيش أحيانا في الحياة نفسها».

وهذه هي مشكلة الكاتب الحقيقي الفنان الذي تتقاسمه حياة اجتماعية أسرة وأولاد لهم متطلباتهم التي تمتص كل ذرة وقت في حياته، وفي ذات الوقت يسكنه وحش لا يقبل بالمقاسمة والمشاركة ولن يعطي جوهره ما لم يستول تماما على ذات كاتبه، وهو الأمر الذي جعل الرجل الكاتب أو الفنان يسبق المرأة بإبداعه بسبب تخليه عن دوره في رعاية الأسرة وترك مسؤولية الرعاية كلها على المرأة، وبطبيعتها الأمومية انحازت وفضلت الاهتمام بأولادها على إبداعها الذي يأتي في الدرجة الثانية، أو سيأتي الوقت الذي تتخلى فيه الكاتبة عن أمومتها مثلما كتبت أناندا ديفي: «تقول لي إنك انكسرت منذ الطفولة، وإنني لم ألحظ شيئا، كنت مشغولة للغاية بضعفي الخاص لكي أتنبه إلى ضعفك، يا له من ناتج رهيب لأمومة فاشلة».