لا أذكر العام بالضبط ،هل هو 1948 أم 1949 وظني أنه عام 1949، كان الشتاء قارساً بعد عامين مُمْحلين، وكانت القرية تبدو في ساعات المساء من فوق الجبل الذي تركع عند أقدامه كمفاعل نووي صغير تتعدد فوهات أقسامه التي يتصاعد منها الدخان، فأهل هذه القرية التي تقع وسط غابة كثيفة من أشجار البلوط والنبق والزعرور واللوز البري المر كانوا يعتمدون لتدفئة بيوتهم الحجرية-الطينية على الأخشاب التي يلقمونها لمواقع حديدية بدائية الصنع "صوبَّات" وهم، لاتقاء زمهرير الليالي الطويلة، يشعلون هذه الـ"صوبات" مع ساعات الغروب، فينطلق الدخان متواصلاً من سطح كل منزل فتبدو البيوت وكأنها مصانع صغيرة متناثرة.
كان مخيم اللاجئين قد نبت، لكنه لم يدم، في الجزء الغربي من القرية، وكنا نحن الصغار نسمع من أحاديث الكبار أن هؤلاء من أهل فلسطين الذين طردهم "اليهود" من ديارهم، وكنا نحاول دائماً الاقتراب من الخيام المتلاصقة لنرى ما يجري، وكنا نستمتع باستنشاق رائحة قلْيِ الفلافل في ساعات المساء، فنحن لم نكن نعرف هذه الأكلة ذات الرائحة الشهية، وكان غذاؤنا يعتمد بصورة رئيسية على "اللبن" وليس غير اللبن ومشتقاته للغداء والعشاء، أما الإفطار فإن وجبته هي الشاي وخبز "الصاج" الخامر الساخن.أمضيت وصديقي ابن خالتي ساعات المساء المبكرة في النظر إلى القرية من مكان مرتفع، وكنا ننشغل بعدِّ المداخن التي يتصاعد منها الدخان فنتابعه وهو يرتفع إلى أن يندمج بالغيوم الكثيفة، وحرصاً على ألا نلتحق متأخرين بالهجوم على أطباق "الرشوف"، فقد نزلنا المنحدر ركضاً، وفي طريقنا مررنا إلى جانب المخيم الذي كانت تتسرب منه كما في كل مساء رائحة "الفلافل" الزكية.أويت مع إخوتي وأخواتي إلى "العِرْزال"، وهو "تخت" كبير من الأعمدة الخشبية المقطعة بلا انتظام ومن أغصان البلوط الناشفة وفوق هذا بعض الأسمال المحشوة بالصوف. لقد آويت إلى هذا "العرزال" في وقت مبكر وحلمت كما يحلم أطفال قريتنا بالحلوى وجراء الكلاب وبالذئاب تهاجم الأغنام وتطارد البهائم. وفي ساعة متأخرة من الليل وبعد حلم مرعب أفقت مذعوراً على هدير الرعود وصليل مزاريب المياه وصهيل الرياح العاتية وصراخ أطفالٍ وعويل نساء وحوقلات رجال.هرعت إلى خارج المنزل، وكان هذا المنزل غرفة واحدة ترفع سقفها المنسوج من القصب والبلان قنطرة حجرية-طينية كانت تبدو لي أنها جميلة، لكنني في دغشة الليل لم أر شيئاً ولقد علمت في الصباح، وكان ذلك الصباح بارداً ورطباً أن العاصفة الليلية قد اجتاحت مخيم اللاجئين وأنها اقتلعت الخيم الكتانية، التي كانت تصطف متجاورة كأهرامات صغيرة، ورمت بها بعيداً وأن الأطفال الفسطينيين بقوا معظم ساعات الليل في العراء تحت رحمة زمهرير تلك الليلة الطويلة قبل أن يتم توزيع بعضهم على بعض منازل القرية.لم يبقَ ذلك المخيم في مكانه، فأهله بعد تجربة تلك الليلة القاسية قرروا الرحيل نحو مدينة الزرقاء، ولم يبقَ منهم إلاَّ عائلة واحدة هي عائلة "أبو نسب"، التي كما كنا نسمع كانت تملك مساحات واسعة من الأراضي الخصبة بالقرب من مدينة "العفولة" في مرج بني عامر، والتي اقتلعها الاحتلال من أرضها ورمى بها إلى أفواه المخيمات المزرية في المنافي البعيدة.لم أنسَ صراخ الأطفال وعويل النساء وحوقلات الرجال في تلك الليلة، ولقد شغلت تلك الحادثة المرعبة جزءاً من ذاكرتي حتى الآن، ولقد بقي ما جرى يلح على ضميري كلما خطرت ببالي فلسطين وكلما جرى حديث عن هذه القضية التي هي قضيتنا كلنا، بل كلما تم التطرق إلى حق العودة الذي يجب أن يبقى يتمسك به كل الذين عرفوا المخيمات وتجربة المخيمات هم وأبناؤهم وأبناء أبنائهم.. من ذلك اليوم الذي أُخرجوا فيه من منازلهم وأطيانهم حتى يوم القيامة.
أخر كلام
من الذاكرة: «صوبَّات»
11-07-2013