فرجينيا ولف وأحاسيس ملتبسة

نشر في 23-09-2013
آخر تحديث 23-09-2013 | 00:01
 فوزية شويش السالم كان من أولوياتي في هذا الصيف زيارة منزل فرجينيا ولف الواقع في منطقة رودميل ساسكس، والمسمى «مونك هاوس»، وهو بيت صغير تحيط به حديقة رائعة محاطة بصمت رهيف يحط بروحه المسرنمة على كل السائرين فيها، فيسمهم بلمسة من أحاسيس من عاشوا ذات يوم بها.

أحاسيس ومشاعر ملتبسة تضع الزائر في روح المكان وكأنه انطمس فيه، برغم فارق الزمن واختلاف العابرين، إلا أن البيت وحديقته مازالا كما هما، وكأن أصحابه ذهبوا ليشتروا حاجة ما من السوق وسيعودون بعد قليل لاستقبال ضيوفهم، فكل ما في البيت يكمن في انتظارهم، بأرائك صالون الاستقبال بألوانه الدافئة وغرفة الطعام بكراسيها المنتظرة لضيوفها والأواني المصفوفة فوقها، وإبريق الشاي الملون برسومات «فانيسا» الرسامة المعروفة شقيقة فرجينيا ولف التي لها لمسات كثيرة في هذا المنزل، ومنها طاولة الخشب الرائعة ونقوش الأواني والصواني، ولوحات لها ولبعض رسامي مجموعة» بلومزبري» الذين كانوا يجتمعون في هذا المكان لتبادل الحوارات الثقافية التي أثرت في الثقافة العالمية ونقلتها في اتجاه الحداثة أو ما يسمى بتيار الوعي.

كل ما في هذا البيت يلح في التذكير بحياة من كانوا فيه، مما يجعل الزائر متورطاً وملتبساً في أحاسيسه، فهل هو حي وهم في انتظاره، أم هو ميت مدعو من ميتين؟

سجاد البيت مكنوس ونظيف، والفونغراف بأسطواناته التي سوف تدور وتصدح في الحال، والراديو الكبير سيذيع نشرة أخبار عصره، وتمثال سيدة البيت الذي لم تحبه يستقبل ضيوفها عند المدخل، ومطبخها يستعد لهم، وغرفة نومها رتبتها على الآخر، وشرشف السرير الأبيض المشغول بالتطريز اليدوي مفرود على السرير الأنيق المرتب، حتى مكتبها لم تنسَ ترتيبه فمازالت لمساتها مطبوعة عليه، ومراسلاتها وصورها مع مجموعة أفراد بلومزبري اللورد جون ماينارد كينز الكاتب الاقتصادي العظيم، وإدوارد مورغان فورستر الروائي والقاص وكاتب المقالات، وروجر فراي الناقد والرسام المشهور، وايثل سميث مؤلفة الموسيقى المعروفة، وليدي لوبوكوفا البرلينا الروسية، وليدي كلوفاكس سيدة المجتمع، وريموند مورتيمر الناقد الأدبي، وفيتا ساكفل الروائية والشاعرة، وإليزابيث براون الروائية والكاتبة، وجون ليهمن الشاعر والناقد، ويأتي على رأس المجموعة فرجينيا ولف وزوجها الناقد والكاتب الاقتصادي ليونارد ولف، والشاعر الأشهر ت. أس. أليوت، مجموعة يحلم كل كاتب بمجالستهم ولو ساعة من الزمن، ولو اكتمل الحظ فسيجود بلقاء مع فرويد الذي أهدى زهرة النرجس لفرجينيا ولف في أول لقاء بينهما، ليوحي لها بنرجسيتها التي لم تُفهم على حقيقتها في عصرها، فكتابتها كانت مختلفة عن روح ذاك الوقت ورافضة للطرق والأساليب والمفاهيم القديمة وبحثها عن صيغ كتابة جديدة آتية من وعي الأحاسيس وعمق الروح وتيار الوعي، وراسمة بيوغرافيا لسير شخصياتها التي غالبا هي أسطورية مختلقة من ذاتها الحسية ليس لها واقع، فالدقة والرهافة في الكتابة والبحث عن التعبير الجمالي الدقيق المحدد كان من أساس كتابتها الآتية من صلب المشاعر الملتبسة ما بين الكتابة والخيال والحقيقة، فحينما رأت زعنفة في محيط هائل، كانت هذه الزعنفة خارجة منها لا من النص، أو خرجت من النص والتبست بها فباتت هي النص؟

هذه الكتابة المعذبة الجارحة ربما ساعدت على زيادة كهرباء رأسها، التي لم يكن هناك علاج شاف لها في عصرها، وزادت من حدة الأصوات التي تسمعها، مما رفع حالة الاكتئاب لديها ودفعها إلى الانتحار في نهر اوس القريب من منزلها هذا، بعد أن ملأت جيوب معطفها بالحجارة وأغرقت نفسها فيه، بعد أن أنهت روايتها «بين الأعمال» عام 1941 مع بداية الحرب العالمية الثانية التي كان لها دور كبير في زيادة حالة الاكتئاب لديها.

دفنت في حديقة بيت المونك هاوس هذا الذي يستقبل الضيوف ويودعهم بمشاعر ملتبسة مثل صاحبته التي حيرت العالم بمشاعرها المبثوثة في كتاباتها، التي جعلتها من أهم الرموز الأدبية في القرن العشرين، فكاتبة «السيدة دالواي» و»الأمواج» حياتها الملتبسة ما بين تحرشات طفولة غامضة، وميول أيروسية، وعصاب نفسي تجعل منها أسطورة مثلما كانت تكتبه، الواقع الذي اختلطت صورة الأصل والخيال فيه، مما يضع زائر منزلها في مشاعر وأحاسيس عميقة صعبة تثير لديه السؤال الآتي: أين هي الحدود الفاصلة ما بين جحيم الإبداع وجنة نعيمه؟

back to top