العزلة لم تخدم يوماً المصالح الأميركية
لا شك أن التأكيدات الدستورية الخاطئة التي يسوقها الجمهوريون (التي تستند إلى مفهوم أن الاعتداءات المباشرة على الأراضي الأميركية تشكل وحدها تهديداً للأمن القومي وتتطلب خطوات حاسمة) كانت ستصدم رونالد ريغان، الذي غزا غرينادا عام 1983 من دون استشارة عضو واحد في الكونغرس.
حاول أحد أعضاء الكونغرس الأذكياء توقع موقف حزبه من منح الإدارة الأميركية التفويض لاستخدام القوة العسكرية ضد سورية، قائلا: "سنكون محظوظين إن حصلنا على دعم 80 جمهورياً من أصل 230".يذكر عضو الكونغرس ذاته أن النواب الجمهوريين يسمعون في اجتماعات دور البلدية في مقاطعاتهم "رسالة تدعو إلى العزلة"، فهذه ليست حرب الولايات المتحدة، فضلاً عن الأدلة على استخدام نظام الأسد أسلحة كيماوية غامضة أو حتى ملفقة. كذلك ما من مصلحة قومية ملزمة تفرض على الولايات المتحدة التدخل، "لندع الله يحل هذه المسألة"، سندعم جانب تنظيم "القاعدة" في هذا الصراع. تخدم هذه الضربة أهدافاً رمزية لا استراتيجية، ولا تحقق العملية أي نتيجة، وسنخوض حرباً عراقية أخرى، أو سنواجه "الحرب العالمية التالية"، حسبما ذكر شون هانيتي بكل عظمته.
يجب ألا ننسى أيضا مسألة الثقة، "لمَ علي أن أبذل قصارى جهدي لأساعد هذا الرئيس؟". تشير كلمة "هذا" في هذا السؤال الذي طرحه نواب جمهوريون إلى بنغازي وسوزان رايس، خدمة الإيرادات الداخلية (IRS) الفدرالية، ولويس ليرنر، ووكالة الأمن القومي وجيمس كلابر، وتشير أيضاً إلى رئيس يعتبر كل السياسات حزبية، حتى الرجوع إلى الكونغرس.أعلن ديفيد أكسلرود، المدافع الأول السابق عن أوباما، على موقع تويتر خلال نهاية الأسبوع: "هذه خطوة كبيرة بالنسبة إلى رئيس الولايات المتحدة تتلاءم مع مبادئه. يشبه الكونغرس اليوم الكلب الذي تمكن من اللحاق أخيراً بالسيارة، إلا أنه لم يعلم ماذا يفعل بها"، شكراً ديفيد على هذه الصورة الجميلة التي ستستميل الجمهوريين المترددين.لا يريد معظم الجمهوريين أن يتحولوا مرة أخرى إلى حزب الانعزاليين، وهم بكامل وعيهم على الأقل، فتدعي أغلبيتهم تأييد جيش قوي، وضمان أمن إسرائيل، ووقف سير إيران الحثيث نحو القنبلة، ولا تُعتبر معارضة تدخل عسكري في سورية (خصوصاً إن كان من النوع الضيق والمحدود الذي تفكر فيه الإدارة) دليلاً على أي ميول نحو الانعزالية، فقد عارض هنري كيسنجر التدخل في سورية، ولا يُعتبر كيسنجر بالتأكيد انعزالياً.لكن مناقشة المسألة السورية تسلط أيضا الضوء على الدودة الانعزالية التي تنخر تفاحة الحزب الجمهوري:ذكر السيناتور راند بول (جمهوري من كنتاكي): "ما من رابط واضح بين الحرب في سورية وأمن الولايات المتحدة القومي، ولن يؤدي انتصار أي الطرفين بالضرورة إلى أن يتولى السلطة في سورية فريق موال للولايات المتحدة". أعلن السيناتور مايك لي (جمهوري من يوتاه): "لا أعتقد أن الوضع في سورية يشكل خطراً وشيكاً يهدد الأمن القومي الأميركي؛ لذلك لا أدعم التدخل العسكري، فقبل اتخاذ أي خطوة، على الرئيس أن يطرح أولاً خطته على الكونغرس، عارضاً خطوط مقاربته العريضة، وكلفتها، وأهدافها، وجدولها الزمني، وينبغي أن يحظى أولاً بموافقة الكونغرس على اقتراحه هذا".قال النائب جاستن أماش (جمهوري من ميتشيغان): "عندما لا تتعرض الولايات المتحدة لهجوم، فعلى الشعب الأميركي، من خلال ممثليه المنتخبين، تحديد ما إذا كان من الضروري أن نخوض حرباً". لا شك أن هذه التأكيدات الدستورية الخاطئة (التي تستند إلى مفهوم أن الاعتداءات المباشرة على الأراضي الأميركية تشكل وحدها تهديدا للأمن القومي وتتطلب خطوات حاسمة) كانت ستصدم رونالد ريغان، الذي غزا غرينادا عام 1983 من دون استشارة عضو واحد في الكونغرس. ومن المؤكد أنها كانت ستذهل جورج بوش الأب الذي أخطر الكونغرس باجتياحه بنما قبل خمس ساعات فقط، ولا بد من أنها كانت ستدهش أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ الجمهوريين عام 2002، مثلاً، الذين أدركوا أن من الأفضل التخلص من التهديدات وهي في الخارج، بدل الانتظار ريثما تصل إلى الداخل.رغم ذلك، كانت أفكار بول، لي، وأماش ستلقى صدى إيجابياً لدى السيناتور روبرت تافت من أوهايو (1889- 1953)، ابن رئيس ورجل يتمتع بنزاهة لا غبار عليها ومبادئ عالية وذكاء حاد، إلا أن أحكامه سيئة دوماً.إليكم درسا تاريخيا: في شهر أبريل عام 1939، ذكر هذا السيناتور، الذي يُعرف بالسيد الجمهوري "أن كل عضو في الحكومة... يضخم الوضع الخارجي، محاولاً إثارة الضغائن تجاه هذا البلد أو ذلك وإبعاد الناس عن التفكير في مشاكلهم في الداخل، مهما كلف ذلك من ثمن". عنى تافت بعبارة "هذا البلد أو ذاك" ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وما هي إلا أربعة أشهر حتى تعرضت بولندا للغزو.إليكم درساً آخر: بعد الحرب العالمية الثانية، انضم الجمهوريون بقيادة السيناتور آرثر فاندنبرغ إلى الديمقراطيين بغية دعم عقيدة ترومان، تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخطة مارشال، لكن روبرت تافت سار عكس التيار، فعارض تأسيس حلف شمال الأطلسي، معتبراً إياه تهديداً للسيادة الأميركية، استفزازاً لروسيا، وعبئاً غير ضروري على الميزانية الفدرالية.سأل تافت عام 1949: "هل نستطيع تحمل مشروع الاغتيال الخارجي الجديد هذا؟ أعارض الاعتداءات الشيوعية كأي أميركي آخر... ولكن يجب ألا ندعها تخيفنا وتدفعنا نحو الإفلاس والتخلي عن كل الحريات، أو نتركها تحدد سياساتنا الخارجية". يكفي أن تستبدلوا كلمة "شيوعية" بـ"إسلامية" في هذا الخطاب لتحصلوا على ما أعلنه راند بول.وهنا نصل إلى فكرة انعزالية أخرى: ما نقوم به في الخارج يسلبنا ما نملك وما يمكننا إنفاقه في الداخل، وعندما يدعي باراك أوباما بغير صدق أن كلفة الحروب الخارجية "ساهمت في تفاقم عجزنا وحدّت من قدرتنا على بناء الأمة هنا في الداخل"، يتبنى هذه الفكرة، شأنه في ذلك شأن بول حين يحاضر ضد المساعدات الخارجية، قائلاً: "بينما نحاول عبثاً بناء الأمم حول العالم، تتهاوى أمتنا في الداخل".يجب أن يدرك الجمهوريون أن العجز يتفاقم لا بسبب الإنفاق العسكري أو المساعدات الخارجية (إذا تأملنا في هذه المسألة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، نلاحظ أن بوش أنفق على الدفاع عام 2008 أقل مما فعل جيمي كارتر عام 1980)، بل بسبب نمو برامج المخصصات. يجب أن يعي الجمهوريون أيضاً أن الاستثمار في النظام العالمي يردع المعتدين الأكثر خطورة في المستقبل ويؤسس عالماً ملائماً لتجارة الولايات المتحدة وأمنها وقيمها، ومن الطرق الفاعلة والقليلة الكلفة لتحقيق ذلك تلقين مجرم تجاهل كل تحذيرات الولايات المتحدة والهيئات المتحضرة درساً قاسياً.لم يستطع تافت فهم هذا الواقع عند مناقشة المسائل المرتبط بالحكام المستبدين خلال تلك الحقبة، شأنه في ذلك شأن بول اليوم، قد لا يدرك ممثل ولاية كنتاكي في مجلس الشيوخ هذا الواقع بعد، ولكن من الناحية الفكرية، يُعتبر قديم الطراز، ولا شك أن الجمهوريين الذين يسيرون وراءه هالكون.* بريت ستيفنز | Bret Stephens