ما قل ودل: هاجس الخوف من رقابة المحكمة الدستورية
ذكرت في مقالي الأحد الماضي على هذه الصفحة تحت عنوان "لماذا أبقى دستور مصر على المحكمة الدستورية؟"، عداء النظام الحاكم في مصر للقضاء بوجه عام والمحكمة الدستورية بوجه خاص، والذي تمثل بحصارها لمنع قضاتها من دخول مقر المحكمة، لأداء رسالتهم السامية، وتجسد في وضع دستور يحجم هذه المحكمة ويقلّص دورها ويعزل قضاتها. وقلت إنه لم يكن هناك ما يمنع النظام أو الجمعية التأسيسية من الإطاحة بالمحكمة الدستورية، وإن الذي حال بين نظام الحكم القائم وإلغاء هذه المحكمة من نصوص الدستور، هاجس الخوف من أن يستعيد كل قاض في مصر من أقصاها إلى أقصاها، حقه في رقابة دستورية القوانين، وهو الحق الذي كان يملكه كل قاض قبل إنشاء المحكمة الدستورية، التي خصها المشرع وحدها بهذه الرقابة عندما أنشأها بالقرار بقانون رقم 81 لسنة 1969.
بيان قضاة مصر 1968و لم يكن هذا القانون خالصاً لوجه الدستور والشرعية الدستورية أو ثمرة بيان الجمعية العمومية لنادي قضاة مصر في بيانهم الذي انطلق من ناديهم في 28 مارس سنة 1968، وهم يشاركون في بحث آثار نكسة 5 يونيو 1967، ليؤكد البيان مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظل رقابة السلطة القضائية، وتوطيد سلطة القضاء لتوفير ضمانة من ضمانات الشعب، أو ثمرة لبيان آخر أصدره الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في 30 مارس 1968، مؤكدا هذا المبدأ، لولا الظروف والملابسات التي أحاطت بإنشائها، حيث صدر قانون إنشائها في اليوم ذاته الذي انتهك فيه الدستور، وأهدر فيه مبدأ استقلال القضاء واستبيحت حرماته، بالقرار بالقانون رقم 83 لسنة 1969 الذي عرف بقانون مذبحة القضاء.المحكمة الدستورية ومذبحة 1969وكان الهدف من إنشاء هذه المحكمة في حقيقته هو الرغبة في إبعاد المحاكم عن رقابة دستورية القوانين، وإلزامها بتفسير المحكمة العليا (الدستورية) لبعض القوانين التي تستدعي طبيعتها وأهميتها توحيد التفسير القضائي لنصوصها بسبب نظرة الريبة والحذر من رجال القضاء الذين تجرؤوا على إصدار بيان 28 مارس 1968، فعزل منهم بموجب القانون رقم 83 لسنة 1969، 169 قاضياً من مناصبهم القضائية في هذا القانون. وقد لا يعرف الكثيرون أن الرئيس الراحل أنور السادات حينما كان نائبا لرئيس الجمهورية، كان رئيسا للجنة التي كان منوطا بها تحديد أسماء القضاة الذين سيتم عزلهم، وأنه الذي أطلق مبادرته بإعادتهم إلى مناصبهم القضائية، عندما أصبح رئيسا لمصر، بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.السادات والخشية من رقابة «الدستورية» ومن هنا ظلت الخشية من الرقابة على دستورية القوانين تراود الرئيس السادات بعد حركة تصحيح مايو 1971، وبدت واضحة عند وضع الدستور الدائم الذي صدر في عام 1971 والذي أفرد فصلا من فصول نظام الحكم، للمحكمة الدستورية.وهو ما بدا كذلك من تراخي نظام السادات في إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا إلى عام 1979، بالرغم من صدور الدستور في عام 1971، وكان هذا القانون أحد القوانين الأساسية المكملة للدستور والتي يتعين الإسراع في إصدارها، بالرغم من أن مشروع القانون الخاص بالمحكمة قد روجع بقسم التشريع بمجلس الدولة في 20/12/1973.تقرير مشروع دستور 1971كما كشف عن الخشية من الرقابة على دستورية القوانين تقرير اللجنة التحضيرية لمشروع دستور 1971 عندما قال وبالحرف الواحد "إن قيام المحكمة الدستورية قد أصبح أمراً واجباً حتى إذا قيل بأن المفروض أن القوانين الجديدة إنما تصدر معبرة عن الإرادة الشعبية إلا أن المحكمة يقابلها عمل رئيسي بالنسبة إلى مدى دستورية نصوص القوانين القديمة فعلا".فالتقرير قد أراد بهذا التبرير أن يطمئن الرئيس السادات على أن ما سوف يصدره من قوانين سوف تكون بمنأى عن الرقابة الدستورية لأنها سوف تعبر عن الإرادة الشعبية، وأن الرقابة سوف تنبسط فقط على القوانين القديمة القائمة فعلاً.تناست المحكمة الدستورية أصل نشأتها ومثلما تناسى مجلس الدولة الفرنسي أصل نشأته حيث نشأ امتدادا لمجلس الملك وامتيازا للإدارة، فأصبح بحق مفخرة لقضاء المشروعية في العالم، تناست المحكمة العليا الدستورية في مصر أصل نشأتها وانتصفت للشرعية الدستورية في العديد من أحكامها التي وقرت في ضمير الشعب.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.