لم يكن الأسبوع الماضي أحد الأسابيع الهادئة أو السعيدة في مصر، بل كان أسبوعاً عاصفاً وممتلئاً بالمشكلات والمشاحنات. فقد واصل الدولار الأميركي صعوده في مواجهة الجنيه الذي فقد أكثر من 10% من قيمته في أسابيع قليلة، كما ارتفعت أسعار سلع عديدة، مع تواصل الغموض والارتباك السياسيين، واستمرار التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، وحوادث القطارات المتكررة، وانهيار أحد العقارات، ما جعل مشكلات الأسبوع أيضاً معمدة بالدماء.

Ad

كان الرئيس مرسي، ومستشاروه، منهمكين، طوال الأسبوع الماضي، في محاولة الخروج من أزمة إعادة بث تصريحاته التي أطلقها في عام 2010، وطالب فيها المصريين بـ"إرضاع أطفالهم كراهية اليهود"، بعدما وصفهم بـ "أبناء القردة والخنازير"، وهي التصريحات التي استدعت رد فعل أميركي حازماً، أدى إلى محاولات لاهثة من الجانب المصري لمحاولة التنصل منها أو التراجع عنها. وفي غضون ذلك، طفت على السطح أزمة الفتنة الطائفية من جديد؛ إذ اندلعت اشتباكات بين مسلمين ومسيحيين في إحدى قرى محافظة قنا جنوب البلاد، بسبب اتهام أحد المسيحيين بـ "اغتصاب طفلة مسلمة". تقع حوادث الاغتصاب باستمرار في مناطق البلاد المختلفة، وأحياناً ما تقود إلى العنف؛ حيث كانت آخر حادثة شهيرة في هذا الصدد تلك التي اتهم فيها تلميذ بإحدى المدارس الابتدائية، في منطقة الصعيد أيضاً، موظفاً إدارياً في مدرسته باغتصابه، فما كان من عائلة التلميذ سوى أنها ذبحت الموظف ومدير المدرسة.

لكن لسبب غير معروف، فإن واقعة قنا تحولت إلى "فتنة طائفية"، حرق خلالها مسلمون غاضبون ممتلكات بعض الأقباط وهاجموهم، كما حاولوا اقتحام إحدى الكنائس، قبل أن تمنعهم قوات الشرطة.

إنها الحادثة الأولى من نوعها في ظل حكم الرئيس مرسي الذي يمثل جماعة "الإخوان المسلمين"، ولعلها تكون الأخيرة، لأن القابلية لانفجار مثل تلك الأحداث المؤسفة تتعزز باستمرار في أجواء الغموض والارتباك السياسي والتراجع الاقتصادي الحاد؛ إذ تشكل تلك البيئة ميداناً خصباً لتفشي الأفكار العدائية والمتطرفة.

كان خطيب مسجد "المصطفى" بمحافظة السويس (شرق البلاد) الداعية السلفي الدكتور عبدالله عبدالحميد يلقي خطبة الجمعة قبل يومين، قائلاً من على المنبر: "هناك حقيقة يمتنع شيوخنا عن الحديث عنها، في وسائل الإعلام المختلفة، رغم أن إسلامنا الحنيف يدعو لها، وأكد عليها كتاب الله وسنّة نبيه محمد (ص)، والتي تتمثل في أن غير المسلمين على أرض مصر، ولا سيما النصارى لابد أن تتم دعوتهم للإسلام، ومن يرفض منهم فعليه دفع الجزية، كما قالت شريعة الإسلام والقرآن الكريم". ولم يقف الداعية السلفي، كما قالت صحيفة "الوطن" القاهرية، عند هذا الحد، بل راح يشكك في إسلام دعاة آخرين، حين قال "هناك مجموعة من الأئمة والخطباء كفروا بشريعة الله تعالى من على المنابر، ويقولون إن المسلمين والنصارى نسيج واحد، بينهم وحدة وطنية، ويؤكدون ضرورة تهنئتهم في أعيادهم. وتناسى هؤلاء أن هذا الأمر والعلاقة بين المسلمين والأقباط، علاقة عقائدية فهم أعداء لنا".

يمكن القول إن هذا الكلام الحاد يعد "شاذاً" ويجب عدم القياس عليه أو الاهتمام به، حتى ولو كان صادراً من خطيب مسجد وأستاذ جامعي أزهري في الوقت نفسه، لكن ما يجعل الأمر يبدو خطيراً حقاً أن هذا الكلام ليس جديداً على الإطلاق. فقد سبق أن تحدث قياديون إسلاميون في تنظيمات نافذة عن ضرورة "فرض الجزية على الأقباط" في أعقاب وصول الإسلاميين إلى سدة السلطة عبر الانتخابات التشريعية والرئاسية السابقة.

وفي مطلع العام الجاري، صُدم المصريون حينما أعلنت إحدى الجمعيات الدعوية، التي تضم في عضويتها المهندس خيرت الشاطر الرجل القوي في جماعة "الإخوان المسلمين"، عدم جواز تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد، مطالبة المصريين من المسلمين بالامتناع عن تهنئة أخوتهم المسيحيين بأعيادهم الدينية "المختلف عليها".

وفي الشهر الماضي، كانت صحف القاهرة وفضائياتها منشغلة جداً بناشط دعوي أعلن نيته إنشاء "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مصر". ليست هذه أول دعوة لاقتباس فكرة "الهيئة" من السعودية، فثمة دعوات مشابهة عديدة تكررت باستمرار منذ وصول الإسلاميين إلى الحكم، لكن الجديد هذه المرة يتعلق برغبة هذا الناشط في استخدام الهيئة التي يسعى إلى إنشائها في "دعوة المسيحيين إلى الدين الإسلامي حرصاً عليهم"، و"فرض الحجاب على المسيحيات".

تنطوي السطور السابقة على مخاطر حقيقية وسلوكيات مؤلمة ضد المسيحيين المصريين في أعقاب ثورة كانت أزهى إشراقاتها ممثلة في وحدة وطنية رائعة؛ إذ كان المسلمون الثوار فيها يحمون قداس إخوتهم المسيحيين في "ميدان التحرير" بأجسادهم، وكان الكهنة المسيحيون، الذين شاركوا في التظاهرات التي أطاحت بمبارك، يصبون ماء الوضوء على إخوتهم المسلمين ليتمكنوا من الصلاة. للأسف الشديد، فقد ساعد النظام الحالي على تعميق تلك المخاطر حينما وصف قياديون في جماعة "الإخوان" وحزب "الحرية والعدالة" التابع لها، وجماعات إسلامية أخرى، المتظاهرين أمام قصر "الاتحادية" الرئاسي، في الشهر الماضي، بأن "أغلبهم مسيحيون"، بل إن بعض القياديين في التيارات الإسلامية وجهوا ما يمكن اعتباره "رسائل تهديد مباشرة" للمسيحيين، وهو الأمر الذي شكل إغراء بالضرورة لبعض "المتعاطفين" و"المتعصبين" و"المهووسين"، لينالوا من المتظاهرين المسيحيين ويستهدفوهم.

ثمة ما هو أخطر من ذلك... إنه الدستور. يعطي الدستور المصري الجديد قدرة للفئة السياسية الغالبة والمسيطرة على تطبيق ما تعتقد أنه "الشريعة الإسلامية"، وإزالة القوانين التي ترى أنها "تناقض الشريعة"؛ والتي ينطوي بعضها بالطبع على التزامات بتحقيق المساواة وضمان تكافؤ الفرص بين المواطنين المصريين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية.

بات المسيحيون المصريون يشعرون بالقلق والخوف أحياناً، في ظل دستور لا يحمي حقوقهم، ويفتح الباب أمام تكريس التمييز ضدهم، وتحت حكم يستند إلى قاعدة أيديولوجية وجماهيرية يصدر عنها ما يشي بوضوح باستهدافهم وعدم الارتياح لوجودهم، ولذلك فقد زادت الأحاديث عن رغبة قطاعات منهم في الهجرة، وهيمن على حديث بعض نخبهم شعور بـ"القلق" و"تزعزع اليقين" و"فقدان الاتجاه".

لطالما ردد البابا شنودة الثالث، رأس الكنيسة الأرثوذكسية الراحل، مقولته الخالدة: "مصر ليست وطناً نعيش فيه، وإنما وطن يعيش فيناً"، ولطالما رددها وراءه المصريون؛ وهي مقولة تجسد مدى الارتباط المصيري بين مصر وأبنائها المسيحيين، الذين لم يتركوا بلادهم على مر القرون، في ظل تحديات ومخاطر متعاقبة جسيمة يبدو أنها في طريقها لتتفاقم مجدداً تحت حكم "الإخوان المسلمين".

* كاتب مصري