أوقف هذا القطار
اكتناز شديد للحكاية، وشيء يشبه اللهاث والركض في المجموعة القصصية: "أوقف هذا القطار"، للكاتب الشاب سعد جاسر، وهي صادرة عن مكتبة آفاق، ولعل هذا "الجموح" مستقى من عنوان المجموعة ذاتها.حجم الكتاب ضئيل، ليس أكثر من راحة كف واحدة، وصفحاته كذلك، قرأته مرورا عابرا، ومن ثم عاودت الكرة، شيء ما يشعرك بعدم اكتمال الحكاية، أو لربّما الكلمات، وتتابع الوصف السردي فيها خفيف، إلى حد يشعرك بسرعة فائقة في انتهائها، وهو أمر قد لا ترغب فيه. هل نجح جاسر في خلق عنصر التشويق، وتجاوز ترهّل الحدث القصصي، ومعه الشخصيات؟
تحوي المجموعة ستة نصوص قصيرة، يقدم الكاتب لكل واحدة منها بنص قصير، أو عبارة مستقاة من شخصيات أدبية وفنية معروفة، يحدُث هنا ما يشبه التكامل بين النص القصصي، والعبارة المستعارة، ويمكن ملاحظة ذلك في نصوص: "أوقف هذا القطار"، و"بارد كساعة متأخرة"، و"عقرب ساعة يمضغ الوقت". يقول:"وحده يشغل كرسي استراحة الحديقة هذا الصباح، لم يحلق ذقنه منذ أيام مضت، تاركا شعره كيفما اتفق، رغم برودة الطقس المنذر بهطول المطر، ونحافة جسده، فإنه اكتفى بقميص واسع وبنطال يخفي بهما سوءته. أسقط رأسه الى الوراء، كلما أبكم فاه بكوب القهوة الورقي". يقارب سعد جاسر في مجموعته ثيمة واحدة تكاد تكون مشتركة إلى حد الوضوح، فشخصياته برغم قلتها مسكونة بهاجس الترحال، هم مشردون، قلقون، باحثون عن الخلاص، ومرضى نفسيون، لذا جاءت قصة "آدم" متسلسلة ومنطقية، ومتوائمة مع أجواء المجموعة، نجح جاسر في تصوير زوايا المشهد كاملة في عيادة الأمراض النفسية، وأدار الحوار بحبكة مدروسة، كما أنه صنع متنفّسا للحدث، حين أطلق العنان للحوار بين "آدم" وطبيبه، لينتهي إلى سؤال "الحب"، وهو لغز زاد القصة تشويقا، وخاتمة جاءت "مستلقية" على مهل، دون افتعال أو بتر مفاجئ للحكاية. يقول:"أخذ فرصته في استجماع ذهنه الشارد، ذهب للاستقبال ليتحرى عن موعده، كان لا بأس بذلك التأخير، ولكن عليه أن ينتظر من في الداخل حتى يخرج، لم يكن متواجدا في هذا المكان، لإصابته بالذعر الليلي، أو يبحث عن هدف يوجه نحوه فوهة الضغوطات التي يمر بها، بل لأنه ما إن يضع رأسه على الوسادة، حتى يرن جرس المنبه بعد ساعتين و....".لا تكاد ترتسم أمامك شخصيات سعد جاسر، ولا تكاد تتعرّف إليها، هم مسافرون أيضا، وبلا مأوى، إلا أن ما يلفت في هذه المجموعة، غياب "البيئة المحلية"، الحدث والشخصيات، وإلى حد ما المكان، جميعها مستقاة من مجتمعات، ليست كويتية أو مشرقية، لنلاحظ مثلا قصة "بارد كساعة متأخرة"، وذلك الرجل الأربعيني، الذي يتباطأ في احتساء كؤوسه، إلى حد يستأذنه النادل، بالانصراف: "عذرا سيدي، سنغلق بعد خمس دقائق"، نحن هنا أمام قصة من الخيال، لربما تجسدت أحداثها، أو اكتملت عناصرها، بفعل قراءات الكاتب الكثيفة في الآداب العالمية، وهو أمر يمكن لأي منا أن يلمحه، في المجموعة القصيرة، فخبرات سعد جاسر القرائية تتمثل هنا في شخصياته وأحداث قصصه.بعض نصوص المجموعة قصيرة جدا، إلى حد يشبه الومضة، كما أن لغتها سلسة، والحوار يأتي متتابعا، ومكثفا، بما يشبه رسائل محددة. ويمكنني القول إن جاسر، في كتابه الأول هذا يخلق خصوصية لكتابة قصصية، جادة، وربما مستقبلا ينشئ قصصا تقارب مجتمعاتنا المحلية، وهو أمر مهم بالنسبة إلى فن "القصة القصيرة" بعد أن انصرف الجميع نحو الرواية.