حتماً... ستجد الأموال مخرجاً ملتوياً للإفلات من الأزمات
الدروس المستفادة من «اليوروبوند»: إذا أصبحت التداولات الرأسمالية مكلفة في أوروبا فإن كميات هائلة من الأموال ستتحول إلى مكان آخر، وإذا زادت الأنظمة قيودها المشددة فإن الشركات ستنتقل إلى مواقع أكثر ترحيباً.
في مثل هذا الأيام قبل 50 عاماً أصدرت شركة "أوتوستريد" الإيطالية المتخصصة في إدارة طرق السيارات، سندات بقيمة 15 مليون دولار، وكانت تلك السندات وهي أول سندات أوروبية نموذجاً لهندسة الأدوات المالية البارعة بأكثر من أنها وسيلة واضحة للتهرب الضريبي. واستندت إلى فكرة حلم بها مصرفيون في لندن تتمثل بالتقاط بعض الدولارات التي كانت تتدفق متنقلة في أنحاء متعددة من أوروبا (وسميت آنذاك بـ"يورودولارز") بسبب التنظيم الأميركي المعروف باسم "كيو Q"، الذي وضع حدوداً على معدلات الفائدة المدفوعة على حسابات الإيداع.وجرى اختيار "أوتوستريد" كأول شركة تصدر سندات أوروبية لأنها كانت تملك الحق في دفع فائدة (في صورة قسائم) من دون خصم الضريبة الإيطالية، وقد تم إصدار السند في مطار سخيبول في أمستردام بهدف تفادي ضريبة الدمغة البريطانية، وكانت القسائم قابلة للدفع في لوكسمبورغ من أجل تفادي ضريبة الدخل البريطانية.
وقد تنامى سوق التمويلات بالسندات الأوروبية "اليوروبوند" بعدما فرض الرئيس الأميركي جون كيندي ضريبة كان الهدف منها تقليص شهية الأميركيين على الاستثمار في أوراق المال الأجنبية. كما أن الشركات الدولية الراغبة في الاقتراض بالدولار تحولت بدلاً من ذلك إلى سوق "اليوروبوند". علاوة على ذلك سعى المستثمرون الأفراد والمؤسسات إلى البحث عن موطن آمن لأموالهم وإلى ملاذ يحميهم من الضرائب المرتفعة في أوروبا. وعلى مدار العقود الأربعة التالية حقق السوق قفزات واسعة ونمواً هائلاً صاعداً من مليار دولار جناها السوق في أول سنة لها عام 1966 ليصل إلى ذروة إصداراته التي بلغت 4.5 تريليونات دولار في سنة 2009.وعبر بعض التدابير المشجعة التي اتخذها بنك إنكلترا المركزي أصبحت لندن مركزاً لهذا السوق الجديد، وكان لذلك تأثير مهم بدوره على إحياء لندن كمركز مالي عالمي بعد المتاعب الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد إثر تراجع دورها العالمي كإمبراطورية وانحسار منطقة الإسترليني المرتبطة بها. وقد أفضى "اليوروبوند" إلى خلق بيئة أعمال مجزية بالنسبة إلى المحاسبين والمحامين والبنوك التجارية في مركز المال في العاصمة البريطاني لندن، كما اجتذبت بنوكاً أجنبية لتوسيع أنشطتها وفتح فروع لها في لندن.وكانت تلك الخطوة الأولى من جانب المدينة المتردية نحو التحول إلى مركز كوني لرؤوس الأموال والتمويلات العالمية الذي تنعم به اليوم. وعندما تم السماح بتعويم معدلات صرف العملات الأجنبية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي عملت لندن على طرح نفسها كمركز دولي لتبادل العملات- وانضمت إليها أيضاً منتجات مالية متطورة وأكثر تعقيداً مثل المشتقات المالية وغيرها من المنتجات المالية الحديثة. وعلى الرغم من أن بريطانيا تحاول دوماً تقديم العظات والنصائح والمحاضرات للملاذات الضريبية المختلفة في العالم وتطالبها بالشفافية والإصلاح، فإن القطاع المالي البريطاني يدين بنجاحه العصري إلى رغبة البلاد في استضافة سوق رأس مال غامض ينطوي على أساليب وطرق متنوعة للتهرب من الضرائب. أكبر أسواق الرسملةكان سوق "اليوروبوند" أول سوق عالمية كبيرة وعصرية في أسواق رؤوس الأمول تبعها أسواق ضخمة عابرة للحدود في العملات والأوراق المالية وحقوق الملكية. وحرصت حكومات في القارة الأوروبية على الدوام في التعامل مع هذه المظاهر بشيء من الشك والريبة. فمن وجهة نظر الحكومات الأوروبية، فإن تلك الأسواق مكونة من مضاربين يريدون التدخل في المسار السلس للاقتصاد، وعندما تكون سياسة حكومة ما غير مقنعة فإنهم يدفعون العملات نحو الهبوط وعوائد السندات إلى الارتفاع. وتمثل أحد الأسباب وراء رغبة قادة الاتحاد الأوروبي في خلق العملة الموحدة في إحباطهم من عمليات خفض القيمة للعملات التي أثرت في الآلية القديمة المتعلقة بتحديد معدلات صرف النقد الأجنبي.وفي السنوات الأخيرة، صب قادة أوروبا جام غضبهم على أسواق السندات وحملوها أسباب ارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي في بعض دول الهامش في منطقة اليورو. وتمثلت ردة فعل السياسيين بوضع أو اقتراح طائفة من الأنظمة والضرائب والتدابير امتدت من القيود على عمليات البيع السريعة قصيرة الأجل (الرهانات على هبوط الأسعار)، وتحجيم أجور المصرفيين ومكافآتهم وصولاً إلى فرض ضرائب على الصفقات المالية، وذلك في محاولة تستهدف تحجيم قوة الأسواق المخيفة.كان يتعين على حكومات أوروبا بدلاً من ذلك الالتفات لاستيعاب العبرة من نجاح السندات الأوروبية "اليوروبوندز": أن القواعد الدقيقة والمدروسة لن تسهم في خفض تكلفة الاقتراض للشركات ولا إقناع المستثمرين بنسيان قلقهم إزاء جدارة الحكومات وقدرتها على سداد الديون، فالمال سيجد دوماً وسيلة للتصرف والالتفاف على الأزمات. فإذا أصبحت التداولات الرأسمالية مكلفة جداً في أوروبا فإن كميات ضخمة من الأموال ستتحول إلى مكان آخر، وإذا زادت الأنظمة من قيودها المشددة إلى حد كبير فإن الشركات ستنتقل إلى مواقع أكثر ترحيباً. وكما قدمت السلطات الأميركية هدية الى لندن في الستينيات من القرن الماضي فإن الأوروبيين يساعدون الآن على ضمان النصر الحتمي للمراكز المالية في سنغافورة وهونغ كونغ.