في الآونة الأخيرة، هناك إجماع ينشأ بسرعة داخل الصين حول اعتبار سيادة القانون الشرط المسبق الوحيد الأكثر أهمية لتحقيق غاية الازدهار الشامل المستدام الطويل الأجل؛ لذا فإن الأمر يستحق التأمل في الكيفية التي تختلف بها سيادة القانون عن الترتيبات المؤسسية الحالية في الصين.
لقد تم تعريف سيادة القانون بأكثر من طريقة، ولكن أغلب السلطات تتفق على خصائص أساسية محددة، فكما يقول كينيث دام من جامعة شيكاغو في كتابه "محور ارتباط نمو القانون" فإن سيادة القانون تستبعد القانون السري والإفلات من العقاب، في حين تعمل على حماية الأفراد من التمييز القانوني وفرض القواعد التي تصب في مصلحتهم.واقترح توماس بينغهام، رئيس المحكمة العليا السابق وكبير اللوردات في المملكة المتحدة، تعريفاً أكثر توسعاً، ولو أنه متوافق بشكل واضح، ففي نظر بينغهام، ينبغي للقانون أن يكون سهل المنال- بقدر الإمكان- وواضح ومفهوم ويمكن توقعه، ولابد أن يخضع الجميع للقانون، بمعزل عن التقدير الشخصي للقائمين على السلطة، وينبغي للنزاعات القانونية أن تُحَل بدون تكاليف باهظة أو تأخير مفرط. ولابد من المساواة أمام القانون، جنباً إلى جنب مع توفير الحماية الكافية لحقوق الإنسان الأساسية.وعلاوة على ذلك، لابد من ممارسة سلطة الدولة بشكل معقول، انطلاقاً من حسن النوايا، ومن أجل الأغراض التي منحت لها هذه السلطة لتحقيقها، في ظل محاكم مستقلة ومراجعة قضائية مستقلة للتشريعات التي تضمن عدم تجاوز الحكومة لحدود سلطتها، ويتعين على المحاكم وغيرها من الهيئات القضائية الرسمية أن توفر الإجراءات العادلة، ويتعين على الدولة أن تفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي.إن بناء سيادة القانون من غير الممكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ففي إنكلترا، تطورت تقاليد القانون العام على مدى مئات السنين من خلال الآلاف من الحالات القانونية، حيث لعب المحامون المحليون والقضاة والمحلفون أدواراً أساسية. وفي أوروبا القارية، ظهرت سيادة القانون في هيئة تقاليد القانون المدني، التي نشأت من القواعد القانونية الرومانية والنابليونية التي تم تنقيحها بشكل دوري في الاستجابة لتغير النظام والثورة.وفي إطار كل من الحالتين، فإن سيادة القانون تتطلب جسماً حياً من القواعد والممارسات التي تتكيف مع التغيرات في القيم والمؤسسات والممارسات والتوقعات والسلوكيات في نظام اجتماعي معقد. وربما لهذا السبب يقرأ الناس في بكين على نطاق واسع اليوم كتاب أليكسيس دي توكفيل "النظام القديم والثورة".على مدى الأعوام الثلاثين الماضية أحرزت الصين، التي تبنت تقاليد القانون المدني، تقدماً سريعاً على مسار الحكم بالقانون، فاستنت قوانين وتنظيمات مماثلة لتلك المعمول بها في الغرب، وهي الآن تعمل على فرض القواعد والتنظيمات وحقوق الملكية على العقارات وغيرها من الأصول، لتنظيم بدء الأعمال التجارية، والعمالة، والتجارة الدولية والاستثمار الدولي- وكل هذا جعل من صعود الصين اقتصادياً أمراً ممكناً.ولكن، مع تقدم الاقتصاد والمجتمع في الصين، فإن الاندماج في الأسواق العالمية والوعي المتزايد بالحقوق من الأسباب التي دفعت التوقعات إلى التغير بسرعة أكبر من تغير القانون والممارسات القضائية. فلم يعد الشعب الصيني راضياً بحكم القانون، بل إنه يطالب بوضع حد للفساد الشامل، وحقوق الأراضي غير الكافية، والتمييز ضد العمال المهاجرين، والمكانة المتميزة التي تتمتع بها الشركات المملوكة للدولة، والحماية الضعيفة للملكية الفكرية.ولكن هل تتمكن الصين من إرساء سيادة القانون كما تُفهَم وتُمارَس في الغرب وأماكن أخرى من آسيا؟في غياب السلطة القضائية المستقلة، فإن النزاعات القانونية في الصين كثيراً ما تحل إدارياً، وهذا يعني أن السلطة التقديرية والافتقار إلى الأصول القانونية الواجبة من الأمور التي تشكل خطراً دائما: فكما يقول المثل الصيني، من السهل أن يمسك المرء بسمكة في مياه موحلة. ولهذا السبب فإن المبدأ الكونفوشيوسي الأساسي يذهب إلى القول بأن المرء لا يستطيع أن يحكم دولة من دون ممارسة الانضباط الذاتي.والواقع أنه من غير الواضح ما إذا كان الجهاز القضائي المستقل عن الحزب الشيوعي الصيني من الممكن أن ينمو ويتطور، أو كيف ينبغي للحزب الشيوعي الصيني أن يفصل نفسه عن الجهاز الحكومي؟ وكما تساءل البروفيسور هي واي فانغ أستاذ القانون في جامعة بكين، فهل ينبغي للحزب الشيوعي الصيني أن يخضع نفسه أولاً للدستور الصيني؟إن الصين تواجه رحلة طويلة على طريق بناء سيادة القانون، وتسلسل هذه الرحلة يتطلب فهماً شاملاً للدور الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني، ويعكس هذا الدور جزئياً ميلاد الحزب الشيوعي الصيني في عام 1921 من رحم العنف والفوضى في أعقاب انهيار أسرة كينغ الحاكمة قبل تسعة أعوام، فضلاً عن ثلاثة عقود من الحرب الأهلية والاستعمار الياباني وغير ذلك من العوامل التي تدخلت قبل وصول الحزب إلى السلطة في عام 1949.وعمل هذا الإرث على تشكيل النفور العميق من الفوضى الناشئة عن الحروب والنزاعات الأهلية، الأمر الذي دفع الحزب الشيوعي الصيني تحت زعامة تشو إن لاي إلى السعي إلى تحقيق النمو والاستقرار عبر "عناصر التحديث الأربعة"، الزراعة، والصناعة، والدفاع الوطني، والعلوم والتكنولوجيا. وبمرور الوقت، أظهر الحزب الشيوعي الصيني استعداده لتغيير مؤسساته، وسياساته، وأسلوب عمله، وأهدافه القصيرة الأجل من أجل دفع وتعزيز مهمته الأصلية المتمثلة ببناء الصين الحديثة.كثيراً ما ينسى المراقبون في الخارج أن الإصلاح في الصين ينطوي على تغيير أقدم، وأضخم، وأكثر بيروقراطيات العالم تعقيداً. فعلى مدى العقود القليلة الماضية نجح الحزب الشيوعي الصيني في بناء البنية الأساسية المادية الصلبة لدولة حديثة، ولكن تشييد البنية الأساسية الناعمة- المؤسسات والممارسات التي تتفق مع سيادة القانون والحكومة التمثيلية- لا يزال في بداياته.ونظراً لتجربة الصين في الماضي، فمن المرجح أن نشهد فترة من الإبداع المؤسسي، الذي يتسم بتغييرات هامشية تؤدي إلى خلق نظام من الضوابط والتوازنات في ممارسة الدولة لسلطاتها، وسيتطلب هذا التنسيق من القمة والتجريب من القاعدة.في وقتنا الحاضر، يعمل انتشار وسائل الإعلام الاجتماعية على تسهيل هذه المهمة وجعلها أكثر إلحاحاً، فالآن أصبح من الممكن تقاسم النماذج الناجحة والسياسات الفعّالة ومحاكاتها بسهولة أعظم من أي وقت مضى، وهو ما من شأنه أن يقنع المزيد من الناس بعدم وجود بديل لسيادة القانون إذا كان لعملية تحديث الصين أن تستمر.أندرو شنغ & شياو غنغ* شينغ، رئيس «معهد فونغ» العالمي، وأستاذ مساعد حالياً بجامعة «شينخوا» في بكين، وغينغ، مدير البحوث في «معهد فونغ» العالمي.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
بناء دولة القانون في الصين
19-02-2013