الشوارع كانت ومازالت أكثر معلم يعجبني في المدن، وأكثر ما يلفت انتباهي فيها، فهي بالفعل عنوان لحياة ونبض وهوية المدينة، وأكثر ما يميزها ويدل عليها ويكشف سترها وسرها كله.

Ad

ومن يعشق الشوارع لا يتوقف عن السير فيها، فالمشي فيها يكشف عن تفاصيلها، ويقدمها مقشرة وجاهزة للتناول والتمتع بلذة الانغمار فيها، خاصة إذا كان السائر أي الماشي والعابر يمتهن مهنة الكتابة القائمة والمبنية في صلب جوهرها على حب التلصص ونهم الفضول المعرفي، ففي هذه الحالة تصبح المتعة متعتين، أولها لذة الاكتشاف المعرفي، وثانيها الفائدة التي تغني المادة الكتابية.

لذا حلت الشوارع في معظم نصوصي الكتابية ونصوص معظم الكتاب، فما كنت أعيشه فيها ينتقل على صفحات العالم الروائي المختلق، ليعيد دفق نبضها على صفحات الورق.

الشوارع كائن حي نابض بالحركة التي تتشكل بحسب الليل والنهار، وحركة التاريخ والزمن، وشكل من يعيش فيها، ومستوى وعيهم الثقافي والاقتصادي والسياسي، وطبيعة حياتهم الاجتماعية والأخلاقية، لذا أصبحت الشوارع هي المفتاح الذي يدل عن طبيعة من يعيش بها، أي الناس الذين تقع بيوتهم فيها، فلو كان الشارع هادئا ورائقا ونظيفا، تجد سكانه يشبهونه وهو يشبههم في الغالب، ولو كان الشارع عكس ذلك أي يتميز بالازدحام والضوضاء وعدم النظافة، تجد سكانه مثله مزعجين وغير ملتزمين بأي من قواعد التعامل اللطيف، وتصبح السمة العامة هي الميل للشجار والزعق والعنف.

ليس هناك ثابت في حياة الشوارع، فهي قابلة للتغير والانقلاب على ذاتها، وتتحول من حال إلى حال، وهو ما كتبته في «حارسة المقبرة الأخيرة» سيرة الغزو العراقي للكويت، فشارعنا الجميل الهادئ، تحول بغمضة عين إلى ساحة حرب، وميدان تسير فيه دبابة، ويتمترس فيه الضباط والجنود وقياداتهم، كما تحول الشارع الرئيسي في ضاحيتنا إلى شارع شعبي انتشرت فيه بسطات الخضار والبيض الأردني والبضائع المسروقة الملتحفة بستائر من الذباب الوافد.

الشوارع هذه بمجرد انتهاء الغزو، عادت لها هويتها بعودة مواطنيها وقاطنيها.

الشوارع في أوروبا تتشابه في تفاصيل عديدة، فمثلا الناس تتصرف بأريحية وبساطة لا تقيم وزنا أو اعتبارا للعين المراقبة للمشهد، فالتعري جائز والأكل ولعق الآيس كريم أثناء المشي طبيعي وعادي، التعبير عن المشاعر بالضم والقبل واللعق وكشف المشاعر الحميمة تحت الأنظار عادي، كما أن وجود بار أو أكثر من أساسيات تكوين الشارع، وأن تعلو أصوات المخمورين بالضحك والصراخ أمر لا يلفت نظر أحد، كذلك مرور عاهرات والمساومات في العلن هو أمر طبيعي وعادي، ولا يكتمل المشهد من دون وجود الكلاب المتبخترة  بدلال أصحابها ومحبتهم، ويجب عدم نسيان خضرة وجمال أشجار الشوارع التي تجتذب الطيور المغردة أو الزاعقة بنباح رهيب، مثل الغربان الكبيرة والنوارس المتوحشة الطاردة للنوم بكل تأكيد، لو كان الشارع يقع في مدن بحرية.

الجلوس في المقاهي لمتابعة المشاهد الحرة المتلاحقة بعفوية واسترسال من يعيش ببساطة الحرية، من دون أي قيود اجتماعية مربكة، هو أحلى ما في حياة الشوارع الأوروبية التي تقدس وتدرك ماهية الحرية في السلوك والتفكير والقرار والمظهر.

ولعل أكثر الشوارع التي تتميز بالطيبة والعفوية، هي شوارع مصر الشعبية القديمة، ففيها ينعدم الفاصل ما بين السلوك الذي يجب أن يكون خلف الجدران، والسلوك الذي يكون خارجها، القاطنون في بيوت هذه الشوارع يكاد ينعدم عندهم التفريق ما بين الخاص والعام، فكل ما في الشارع هو لهم، أو مكمل لمساحات منازلهم، فالبيوت المتلاصقة بحياة جيرة تعدم معنى الخصوصية وتذيبها في حميمية العلاقات المتشابكة في تكاملية لابد منها، في عيش اجتماعي انصهرت حدوده بعضها في بعض، فلم يعد هناك من ضرورة لوجود الخاص والخصوصي في علاقات اجتماعية مكشوفة للجميع، فمثلا من الطبيعي جدا أن تفرش عائلة جرائد على الرصيف لتتناول غداءها، وأن تعزم العابر على الأكل معهم وبسم الله اتفضل، بمنتهى الكرم والمودة، ومن الطبيعي أن تشاهد فتاة بقميص النوم تبكي في الشارع، أو رجلا نازلا ليشتري الفول وهو يلبس البيجاما، أو امرأة كاشفة عن ثديها وهي ترضع طفلها في الشارع وتضحك مع بائعة محشي الكرنب وقدرها المنصوب فوق الرصيف مع «أكواز»  الجرائد المعدة لبيع لفائف الكرنب. تبقى مصر متعة الشوارع.