خارطة أولى

Ad

رُقاقة من الصفيح الهشّ تأكله الصدأ...، هكذا رأيت سطح بيتنا ذات منام في أرض نائية حدّ اليُتم! ورأيتُني أخطو فوق هذه الرقاقة متوجسة حذرة. أخطو وأتوجس... وإذا بقدميَّ تسوخان حين تتهاوى الرقاقة الهشّة... أتشبث بجدار السطح وأتأرجح كالثمامة! ووراء الجدار المتطامن ألمح رأساً يطل، وذراعاً تلوّح! ما تلك الذراع؟!... أهي حبلي السري؟!

 كان ذلك من أضغاث الأحلام، ولكن أول مشهد في ألبوم طفولتي الغابرة لم يكن مناماً:

أراني ضئيلة مموهة الملامح، ألهو وأتحرك في حوش رملي شاسع، وزمان كالهلام أو كنثار المجرة، وحولي أشباح، ووجوه، وأصداء أصوات، وحجرات متباعدة. ولسبب ما أخذتُ أسير إلى الخلف متراجعة! أهو لون من اللهو؟! أسير إلى الخلف... أسير حتى وجدتُني أسقط فجأة على ظهري في طست كبير مملوء بالماء! ما هذا الماء؟ أهو الرحم؟

 وما بين أضغاث الأحلام والذكرى تتكدس الصور متوترة ومرتعدة، كشريط فيلم ينزلق من آلة تصوير معطوبة. شريط لا أدري إن كان ينتمي إلى الأحلام أم اليقظة؟ أو انه مزيج منهما؟ صور سوداء وبيضاء ورمادية وملونة، ولكنها جميعاً لقطات متعددة لمشهد واحد يتكرر! مشهد تلك السيارة المنطلقة التي أجلس وراء مقودها، سيارة منطلقة كالجنون، وكلما حاولتُ لجمها، أراني أدوس في الفراغ حيث لا مكابح!

 ما تلك السيارة؟... أهي الحياة؟

 ثلاثة مدارات: حبل سري، ورحم، وحياة. وفي فلك هذه المدارات تنداح الأسئلة دائرية ومغلقة بلا نهايات! تماماً كآلة (الروليت) التي لا تملك أن تجيبك حين تسألها عن رقم رابح أو خاسر! عليك فقط أن تتابع الكرات المتقافزة، ما دمتَ قد دخلتَ صالة القمار... أو سيارة الحياة... لا فرق!

....................

بزوغ

 قيّضتْ لي خارطة الحياة والأحياء أن أطل على الدنيا قبل بزوغ عام 1953م بستة أيام فقط! لا أدري لماذا لم أنتظر هذه الأيام الستة لأكون من مواليد العام الجديد لا العام المنصرم؟!... هكذا يحاصرني السؤال الاستنكاري وينمو في داخلي لون من الرفض لأنْ أكون من مواليد النهايات والذُبالات المتبقية لا مواليد الطلائع والبدايات! وظل هذا الشعور بالخذلان يلازمني إلى أن انتقلت للعيش والدراسة في إنكلترا إبان بعثتي لتحضير الدكتوراه مطلع الثمانينيات. وهناك اكتشفت أن الخامس والعشرين من ديسمبر هو اليوم الأهم والأشهر في العام كله. ففيه ولد نبي السلام والرحمة المسيح عليه السلام، وفيه تُقام أعياد الكريسماس العالمية بظلالها الدينية والاجتماعية المبهجة، وعلمتُ حينئذ أن كل من يولد في هذا اليوم المجيد -حسب اعتقادهم- يكون أشبه بـ(المسيح الصغير)، الذي يأتي ليمسح الآلام ويلون الحياة بالسلام والرحمة، أو هكذا يزعمون.

 وأمام هذا الانطباع الجديد ليوم الخامس والعشرين من ديسمبر، بل أمام علامات الدهشة والاغتباط التي أراها على الوجوه حين أُسأل عن تاريخ ميلادي، بدأ شعوري إزاء هذا اليوم يتبدل ويكتسب في نظري شيئاً من التميّز والخصوصية. ورغم ذلك فميلادي بتاريخ

25 /12/ 1952م هو توثيق صحيح ودقيق استناداً إلى شهادة الميلاد. ولعله من فضلة القول التنويه إلى أن اعتماد تسجيل المواليد كان قد بدأ في الكويت مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، بينما عانى مواليد عقد الأربعينيات ومن سبقهم صعوبة تحديد تواريخ ميلادهم بسبب غياب مثل هذه الوثائق.

   (يتبع)

(*) مقتبس من كتابي: تتكسّر لغتي... أنمو.