في معرض التمثيل بكراهة صدور الشعر من المرأة كإرث ثقافي واجتماعي موغل في القدم، يقول الدكتور عبده بدوي في دراسة له بعنوان (ظاهرة التعبير عن الحب عند الشاعرات): "بأن المرأة الشاعرة محاصرة وغير مقبول منها البوح، فقد كانت تُهدد إن فعلت بالضرب وبالطلاق وبقطع اللسان". وهو اقتباس يشير إلى مدى الحرج والحساسية اللذين يسببهما قول الشعر الوجداني خاصةً، وهو الشعر الألصق بالمرأة وعواطفها، ومدى تكبيل هذا اللون من الشعر بالمحاذير والتابوهات.

Ad

بل إن الأمر اتخذ منحى أكثر حرجاً وكراهةً حين أُقصيَ هذا اللون العاطفي من الشعر في العصر العباسي في زاوية القيان والجواري من الإماء المبذولات للمتعة والأنس. ومن هنا ما عاد الشعر يليق بالحرائر وكرائم النساء. يعلق عبدالله الغذامي في كتابه (المرأة واللغة) على موضوع التحرّج من شعر النساء وثقل مؤونتهن الثقافية والاجتماعية قائلاً في معرض حديثه عن (علية) أخت هارون الرشيد، وهي السيدة التي كانت تسعى إلى إظهار صوتها ومشاعرها:

"وهذا ما حدث لعلية أخت هارون الرشيد التي قالت الشعر وأعلنت الحب، ولهذا جاء الحرج الثقافي الكبير. وهذا هارون الرشيد المحب للشعر والطرب يجد نفسه يمقت الشعر والألحان، ولا تسمح له ثقافته أن يرى أخته تفعل أفعالاً هي في ثقافته من أفعال الجواري. كانت علية واحدة في بلاط راقٍ ومتطور ثقافياً ويحيط بها الفن والثقافة من كل مكان، حتى ان المعتصم استمع إلى لحن شعري أطربه وفرح به، ولما سأل عن قائله غضب غضباً شديداً حينما قالوا إنه لعمته (علية). وهذه غضبة ثقافية تشترطها الثقافة وتدفع إليها. ولئن كان اجتماع الشعر والغناء كارثة ثقافية على ذوي السيدات، وهذا أمر جلي ثقافياً واجتماعياً، فإن قول الشعر وحده يأتي أيضاً ليكون حرجاً ثقافياً واجتماعياً يصعب التسامح فيه. لذا ظل هارون الرشيد كما تروي الأخبار في حال قلق دائم مع أخته (علية) فأحياناً تغص نفسه بالغيظ والقهر، إلى أن ماتت وطبع على جبينها قبلة الموت، وأحس بالراحة من ذلك العبء الثقافي الباهظ".

ويأتي عامل له نصيب كبير في المحافظة على هذا النسق الثقافي الموروث، والاستماتة في حراسته وحفظه وتداوله، ونعني به دور الرواة والتدوين في تكريس هذا الموقف المتحرّز من شعر النساء، وحجب أسمائهن وأصواتهن. إذ يبدو أن مؤرخي الأدب قد حرصوا وبإصرار متعمّد على وضع المرأة العربية وآثارها في منطقة الظل. وسبب ذلك أن حركة الجمع والتدوين التي بلغت أوجها في العصر العباسي قد تمت على أيدي رجال يمثلون ثقافتهم السائدة في مجتمع كان قد نحّى المرأة جانباً عن الحياة الثقافية، فضلاً عن أنه لم يكن من حق المرأة في نظر أولئك الرواة الذين أشرفوا على حركة الجمع والتدوين أن يكون لها صوت يكشف عن ذاتها وخلجات نفسها، فلا غرابة إذن إن رأيناهم وقد تجاهلوا معظم ما قالته الشواعر القديمات في غير الرثاء وأهدروه.

  وقد كان الرأي السائد لدى المؤرخين والرواة في تقييم شعر المرأة غالباً ما يشير إلى جملة من القيم النقدية الذكورية التي كانت تسود المشهد الأدبي وتفرض تصوراتها ومقاييسها، من مثل مقولة أن "أغلب شعر النساء موحد الغرض"، ومقولة: "ندرة ما يحتويه هذا الشعر من ذكر لأيام العرب وحروبهم وغزواتهم" و"أنه أقل فحولة وأندر غريباً من شعر الرجال".

وكلها كما نرى أحكاما نقدية تخص عمود الشعر العربي الذي كان قد قُنّن بإحكام على مقياس فحولة الرجل ودوره الاجتماعي وقيمه القبلية ولغته، بل ان أمر النظر إلى شعر النساء من قبل المؤرخين والرواة لم يقف عند حد قياسه بعمود الشعر وشروطه، بقدر ما تدخّلت في هذا المقام أيضاً مسألة الذوق والميول والأهواء، وكلها تسجل موقف الانحياز للرجل وشعره. فقد "فضّل ابن سلام متمم بن نويرة في الرثاء على غيره، ولم يفضل الخنساء، ومثل هذا كثير في كتب الأدب". "وسئل أبوعبيدة عن سبب إغفاله لقصيدة (وصف سباق) للخنساء وهي من جيد شعرها ضمن ما رواه من شعرها، فأجاب باعتذار أقبح من ذنب الإغفال نفسه، حين قال: العامة أسقط من أن يُجاد عليها بمثل هذا الشعر". وفي هذا إشارة إلى أن مرويات أولئك الرواة في الشعر تتأسس على الاختيار والانتقاء، ليس في ما يخص النماذج فقط، وإنما أيضاً في ما يخص الجمهور الذي توجَّه له. وأبو عبيدة حين يروي شعر النساء ومنهن الخنساء، فإنه لا يوجهه إلا للعامة والدهماء، بما يتناسب وشعوره بدونية هذا الشعر وقلة شأنه! لكنه حين يواجَه بنص جيد من شعر النساء فإنه يقف موقف الحائر المتردد، ثم يغلبه استكباره ونعرته الفحولية في الإقصاء والتعتيم، فيُسقِط هذا النص غير آسف عليه!