لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون وجود علاقات إنسانية في حياته، وعندما أستخدم هنا لفظة "الإنسان" بالعموم فأنا أعني بالضرورة الإنسان الطبيعي، وليس تلك الحالات المنعزلة، بل إن هذه الحالات بعينها هي التي تشكل الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

Ad

الإنسان الطبيعي بحاجة ماسة إلى وجود شبكة من العلاقات الإنسانية المتزنة تحيط به في حياته، يتوزع فيها الناس على أبعاد متفاوتة من حوله بحسب دلالة كل واحد منهم ومعناه وقيمته بالنسبة إليه. هو بحاجة إلى أفراد أسرته وأقاربه، وبحاجه إلى أصدقائه ورفاقه، وبحاجه إلى زملائه في العمل ومعارفه، هو بحاجة أكيدة إلى هؤلاء جميعا حتى إن تراءى له استغناؤه عنهم.

لكن من حقائق الحياة الغريبة أن أغلب الناس لا ينتبهون إلى قيمة أي علاقة وأي شخص في حياتهم إلا بعدما يرحل هذا الشخص، حينها فقط عندما يطعنهم خنجر الفقد أو يجرحهم يدركون بوضوح حجم الفراغ الذي تخلف، وتنكشف أمامهم بجلاء قيمة هذه العلاقة وأهميتها، وأما المحظوظ من الناس فمن ينتبه قبل ذلك أي عندما تصبح العلاقة عند حافة التهديد، وأما الرابح فهو من لا ينتظر حتى ذلك كي ينتبه.

وكذلك من الحقائق الغريبة أننا حين نفكر بالعلاقات في حياتنا فإن تفكيرنا ينصرف إلى ما تقدمه وما قدمته وما يجب أن تقدمه هذه العلاقات لنا، ونتجاهل، بلا انتباه في الأغلب، التفكير فيما يجب أن نقدمه نحن لهذه العلاقات لكي نرعاها ونبقيها حية نابضة.هذا التفكير الخاطئ هو المنزلق الأول الذي يقود إلى اعتلال هذه العلاقات ومرضها وربما موتها مع الأيام!

يستهويني أن أرى الناس من حولي، كائنا ما كان موقعهم بالنسبة إلي، بمنزلة الإوز الذي يبيض لي الذهب، والذهب في هذه الحالة هو العطاء الذي يقدمونه لي بكل أشكاله؛ ذهب الحب؛ ذهب التعاطف؛ ذهب الإنصات؛ ذهب الرفقة؛ ذهب الحديث الجميل؛ ذهب المشاعر الدافئة؛ ذهب التقدير؛ ذهب الكلمة الطيبة؛ ذهب الابتسامة الصادقة؛ ذهب المساعدة المادية والمعنوية؛ ذهب الوجود عند الحاجة؛ ذهب الكلمة الخيرة في غيابي؛ ذهب الدعاء لي في ظهر الغيب، والكثير الكثير من الذهب غير هذا كله.

 ولأني أتذكر دائما تلك القصة التراثية عن ذلك المزارع الذي وجد في مزرعته إوزة كانت تبيض له بيضة ذهبية كل يوم، فقاده تفكيره العجول إلى ذبحها وشق بطنها واستخراج كل الذهب دفعة واحدة، فقتلها ولم يجد شيئا وأفلس، فإني أدرك أن لهذه العلاقات في حياتي قدرتها وطاقتها وإمكاناتها في العطاء نحوي، وأنه سيعتريها من الإقبال والإدبار والقوة والضعف ما يعتري كل البشر، بل ما يعتريني أنا شخصيا تجاه الآخرين.

 ولهذا أحرص على ألا أقسو عليها، فلا أطالبها بما يفوق طاقتها، ولا أستعجلها في العطاء ولا أحشرها في الزوايا الضيقة لالتزاماتها تجاهي، ولا أجعلها في محل الاختبار والعتاب دوما عندما أرى منها أي تقصير، إنما أعطيها مساحتها البشرية الطبيعية كي تعطي وتقدم وتتدفق بإنسانيتها العفوية تجاه العلاقة، مستمرا بالعطاء والتدفق تجاهها بقدر ما أستطيع أيضا.

نحن جميعا بحاجة إلى الانتباه دوما إلى رصيد العلاقات الإنسانية من حولنا، وبحاجة إلى التواصل الجميل معها، وبحاجة إلى أن نعطيها بقدر ما نستطيع، كي تخضرّ وتزهر فتعطينا في المقابل مع الأيام، وحينها سنظفر بالسعادة الحقيقية.