لا أذكر بالضبط لكنني أعتقد أن هذا حدث إما في عام 1956 أو في عام 1957، ففي بدايات فصل ربيعي مبكر جميل تنادى أهل القرية إلى أن بعثة لجمع التبرعات لـ"مجاهدي" الجزائر قد وصلت وأن من يريد المساهمة في سبيل الله عليه أن يأتي إلى بيت شعر مختار القرية الذي كان يتوسط سهلاً مخضراً ومعشوشباً في "الحوض الشرقي"، والحوض هو قطعة الأرض التي تعتبر متنفساً وملكيتها عامة وهي تقابل كلمة "كومون" باللغة الإنكليزية.

Ad

كانت أحوال أهل القرية بصورة عامة جيدة لكن "السيولة النقدية"، بمصطلحات هذا العصر، كانت شبه معدومة فالناس يملكون حلالاً وحياتهم "لبـنٌ بلبنٍ" ويُخزِّنون الحنطة والشعير من صيف إلى صيف ويكتفون من الملابس بسروال من قماش "المارونِسْ" كل عامين وبثوب من القماش نفسه، وللرجال، بمزنوك مُبَهْنسْ أو دشداشة فقدت لونها الأبيض الذي تحول مع الأيام إلى رمادي مشوب ببنية خفيفة.

لم تكن هناك لا "فضائيات"، تصهل صهيلاً كما في هذه الأيام، ولا تلفزيونات ولم تكن دخلت القرية حتى لو جريدة واحدة وكان هناك مذياع واحد عند صاحب "الدكانة" الوحيدة التي لا تبيع سوى "الفَتْلة" و"المروحِيَّة" وشربة "الخِرْوع"  و"ملح الإنكليز" والراحة والحلاوة والعجوة وبالطبع السكر والشاي ليس على أنواعه وإنما على نوع واحد... والوحدانية هي من صفات الله سبحانه وتعالى.

عندما سمع بنداء المنادي بأن من يريد التبرع إلى "مجاهدي" الجزائر ترك بقرتيه وحماره، حيث كان يرعاهم بالقرب من حقل قمح علاقاته بصاحبه ليس على ما يرام في حين أن ما بينه وبين "المْخاضْري" ما صنع الحداد، وعاد ركضاً إلى خربوشه الذي كان في طرف "الحوض الغربي"، وصل بأنفاس متقطعة، وبصدر يرتفع ويهبط ويصْدر حشرجة بسبب سجائر "الهيشي" التي لا تفارق شفتيه والتي حولت شاربيه من اللون الرمادي الأذْرى إلى اللون الأحْوى الداكن.

قال لزوجته، التي كانت تنشغل بتفريغ اللبن من "سِعْنٍ" رائحته عطنة ومنتنة، أعطني ذهبك... تطلعت الزوجة من طرف عينها وردت بابتسامة سخرية لها أكثر من معنى، وعندما كرر الطلب قالت له بعد تنهيدة طويلة:"... إنَّ الذهب الذي أهديتني إياه مخبأ تحت أساس بيتنا القديم، إذا أردته فعليك أن تذهب إلى هناك وتحفر لتخرجه" ثم أطلقت قهقهة فيها الكثير من القهر والكثير من الوقاحة!

تلفَّت حوله ليتأكد من أن أحداً لم يسمع ما قالته زوجته.. ثم انطلق هرولة نحو قرية مجاورة بعد أن تذكر أن أخته المتزوجة هناك كانت قد باعت "عنزتها" قبل عامين بدينارين وأنها أعطت له هذا المبلغ الكبير ليشتري لها "قرطين" من "دكانة" الشامي في جرش، وصل إلى حيث كان بيت زوج أخته يتوسط مضارب العشيرة المجاورة من القرية المجاورة، إختلى بأخته قليلاً فهمس في أذنها حيث كان أحد "القرطين" يتدلى من أذنها ويتلولح بخيلاء مدت أخته يدها إلى الأذن الأولى ثم الأذن الثانية ووضعت "القرطين" في يده المرتجفة، فانطلق عائداً إلى قريته يسابق الريح.

وصل إلى حيث بيت "المختار" في الحوض الشرقي، فلم يجد سوى عجوز تحشو غليونها بـ"الهيشي"، سألها عن البعثة فأومأت إليه في اتجاه الغرب وقالت إنها ذهبت إلى "جُبَّة"، فإنطلق مسرعاً على الطريق الترابي الذي يقود إلى هذه القرية المجاورة، ركض وركض، لكنه لم يدرك سيارة بعثة التبرعات فتوقف عند شجرة "الشيخ مرشود" في الطرف الغربي من مرج الحدَّادة، وأخذ يضرب رأسه بجذعها الصلب المتين، وهو يضغط بقبضته على "القرطين" اللذين كانا في وسط كفه ويكرر بصوت مبحوح: "يالله، ماذا عملت وفعلت، حتى لا يُكتب لي أن أساهم مثل الرجال الآخرين بدعم إخواننا المسلمين المجاهدين في الجزائر"، وانخرط في نوبة بكاء هستيرية وهو يواصل ضرب رأسه بجذع شجرة البلوط العتيقة التي لا تزال قائمة في مكانها حتى الآن.