ذات الله هي المصونة وهي التي لا تمسّ، أما الأفراد فمهما عظم شأنهم فإنهم يظلون بشراً يصيبون ويخطئون، وبالتالي فإن من حق الناس عليهم تصويب أعمالهم إن أخطؤوا ومدحهم إن أجادوا، وفي قصص الأنبياء وصحابتهم الكثير مما يبين أن أخطاءهم تعرضت للنقد سواء من ربّ العباد أو من الناس.

Ad

 ولعل الرواية التي نسمعها مراراً وتكراراً كيف كان المسلمون يخاطبون الصحابة في المسجد ويصوبون أقوالهم، ويعترضون حينما يجب الاعتراض، وكيف أن الصحابة لا يجدون غضاضة من النقد أو التصويب ويتقبلون النقد بشجاعة أمام الملأ خير مثال.

وحين صدرت الدساتير في الدول الملكية أو الشبيهة بها ظهرت بدعة الذات المصونة، وقد كان الغرض في البداية هو حماية الحاكم من الكلام الجارح، ولكنه تعدى بعد ذلك إلى منع أي تعرض للحاكم أو نقد لتصرفاته أو حتى توجيه النصح إليه، وأضيفت في الدساتير مواد لتأكيد هذا المنع مما أعطى الحكام عصمة لا تجوز، وأسبغ عليهم ألوهية مرفوضة شرعاً وقانوناً، وصار التعرض للحاكم بأي نقد، ولو كان بنّاء، يعرض صاحبه للمساءلة، وفي دول جائرة كان المنتقد يختفي عن الوجود.

الزمن تغير ومفاهيم الحرية توسعت ووسائل الكتابة وأدوات التواصل بين الناس لم يعد بالإمكان ضبطها، ولكن الحكام لم يستوعبوا هذا، وهم يصرون على أن ذاتهم مصونة لا يجوز توجيه أي نقد إليها، وما نشاهده في كل الدول العربية دليل على أننا لا نستوعب قيمة حرية التعبير، ولا ندرك التغير الحادث في العالم.

لا أحد يقبل إهانة أي إنسان آخر أو توجيه أي قذف شخصي إليه أو إلى عائلته، ويكون هذا مستهجناً أكثر تجاه أولياء أمورنا من حكام وآباء وأمهات أو كبار السن، أو من لا يستطيع الرد بوسائل الاتصال الحديثة. الشتم والإهانة الشخصية مرفوضان من الجميع لكن النقد لأي كان، وبالذات لمن يتولى منصباً عاماً،  لم يعد بالإمكان تحاشيه أو حظره، ولم يعد بالإمكان إيقافه مهما كانت قسوة الأحكام التي تصدر ضد المنتقدين.

إن قضية التعرض للحكام بالنقد البنّاء متوقع أن تشهد إقبالاً كبيراً من الناس حتى إن أغلظ الحكام العقوبة، فلم يعد الإنسان ذلك التابع الخانع أو ذلك الذي لا يجد وسيلة للفت انتباه الحاكم إلى المخالفات أو القصور أو تقديم الشكر لعمل جليل قام به. في زمن قريب كان الناس يحنقون وينامون قهراً، ومع الوقت يثورون حين لا يجدون أذناً صاغية، أما الآن فإن وسائل التواصل بين الناس أصبحت مفتوحة ولا تستطيع جهة، مهما أنفقت من ملايين، حبس هذه الوسائل أو منع الناس من استخدامها، بل إن الناس يمكن أن تتحدى الحكام بالتزامن في الكتابة، بحيث لا يستطيع الحكام عمل أي شيء لكثرة المنتقدين لأعمالهم مهما كانت قوة رجال الأمن وقدراتهم.

لو كنت في مكان الناصح للحكام العرب لقلت إن ترك الباب مفتوحا للنقد الهادف والبنّاء أو لمجرد التنفيس هو أفضل وأسلم وأقل ضرراً من المنع وكتم أصوات الناس، فمشاعر مكشوفة خير ألف مرة من مشاعر مدفونة، وقديماً وحديثاً قيل إن الضغط يولد الانفجار، وهو ما لا نريده جميعاً، ولو أردنا اللحاق بالأمم المتقدمة لكنا خلقنا الوسائل لرصد آراء الناس ومعرفة أسباب قلقهم، وتفاعلنا مع اتجاهات الناس واستفدنا مما يقال ويكتب برحابة صدر وعقل مفتوح ونية خالصة لمعالجة أي خلل.