إنه مجرد كلب
في مقال نشره نيكولا آبي في مجلة دير شبيغل الألمانية وترجمته "الحياة السعودية" بعنوان "قصة طيار طائرة درون أميركية" يروي كيف أن من يفقد حياته ليس القتيل فقط بل أيضاً القاتل، فضابط السلاح الجوي الأميركي يتمترس في قمرته على بعد عشرات آلاف الكيلومترات من الهدف، ويرسل طائرة "درون" الأميركية بدون طائر، نحو هدفها في قرية أفغانية بعد أن راقبه أياماً. وعبر شاشة أمامه يحدد بأشعة الليزر سطح الهدف، ثم بكبسة زر واحدة خلال 13 ثانية يشاهد الهدف يسحق أمامه، وتصل إليه الصور بفارق متأخر ثلاث ثوان. في الثانية ما قبل الأخيرة يشاهد ورفاقه طفلاً يخرج من الهدف فيدمره الصاروخ، فتتألم قلوب الضباط الأربعة، ويتساءلون هل قتلنا الطفل؟ لكن إشارة تأتيهم "إنه مجرد كلب"، فيتساءلون كلب يمشي على قائمتين؟، في محاولة للتعبير عن أن الضباط الذين يقتلون يعانون أيضاً العذاب حين يقتلون، لكن هذا لا يهم، فهم في النهاية يقتلون سواء تألموا أم لا، لكن المرعب في وصف الكاتب اللامع هو طعم القتل، فهو في المرة الأولى لا يشبه المرة المئة، في المرة الأولى اتصل الضابط بأمه يبكي مثل طفل، ولم يتحدث مدة أسبوع مع أحد، وخسر صديقته التي لم تفهم صمته أسبوعاً كاملاً ثم تركته، حتى حين شرح لها السبب لم تعد، لأنها لا تريد أن تتحمل هذا العبء، ثم تالياً يتعوّد على أن القتل مهنة مثل كل المهن. وفي السنوات التالية فقد هذا الضابط التفاهم مع من حوله ولم يعد ينام، ثم انهار ثم صار يبصق دماً، وحين أحيل إلى إجازة ستة أشهر وعاد، سمع نفسه يقول وهو يدخل مكتبه "مَن القذر الذي سنقتله اليوم؟". فكره نفسه فاستقال.
من الجانب الآخر الأنيق للصورة ومن أمام أجهزة القتل المتطورة تقنياً يتم احتلال البلدان المتخلفة واستغلال ثرواتها والتحكم في سياستها، لكننا يمكن أن نسمع الأنين نفسه، فالضابط يتخصص في القتل مضطراً، لأنه لا يملك نقوداً وبحاجة إلى وظيفة وعليه ديون، لكنه في النهاية يفقد عقله وحياته وأصدقاءه ورفيقته، بينما نحن الجانب الآخر نعيش مع الضحية الذي ينزف دماً ويفقد ساقاً أو يموت، ويجرف الصاروخ في طريق الهدف طفلاً وزوجة أو بريئاً كان يمر مصادفة، فيهون الضابط على رفاقه بالقول "كان مجرد كلب".أتذكر صدام حسين حين حاصرته القوات الأميركية بعدتها وعتادها، خرج على التلفزيون العراقي يلقي قصيدة يتحدث فيها عن حصانه وسيفه والشهامة العربية، وهو من احتل جاره، بهكذا سنواجه العدو الذي نشتري منه السلاح فلا ننتهي إلا بقتل بعضنا البعض، بينما نبقى في مرمى الأشعة هدفاً لا يميز بين الكلاب والأطفال، رغم هذا نصر على أن ندرّس أطفالنا في العلوم أن دوران الأرض قول فيه شك، وفي الفقه ندرسهم ما الذي نفعله عند ضياع السواك؟ وكل ما يهم المحتسبين في آخر تقليعة نشروها هذه الأيام هو عدم جواز الاختلاط بين النساء والرجال في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الصباح حين نفتح الصحف نقرأ عن آلية عمل طائرة "درون" الأميركية بدون طائر، وكيف يتفرج ضابط السلاح الجوي على الأفغان وهم يتوددون لزوجاتهم فوق السطوح وهو يراقبهم أياماً عدة، فيكشف أنهم أناس مثله لديهم أطفال وشبابهم يحبون لعب الكرة في الحقول، لكن حين يأتيه الأمر يضغط على زر صغير، ثم يطمئنه مديره أن من قتله "مجرد كلب".