موتسارت الإيطالي
مناخ مدينة «بَزارو» Pesaro الصيفي معتدل، بالرغم من الشمس التي تطلع على الناس في ساعة مبكرة. شمسٌ تسمح للناس أن ينعموا بماء بحر هادئ، وآيس كريم إيطالي لا يُستغنى عنه. مناخ يُطمّع الناس بنعيم الدنيا ومسراتها، ولا يُزهّد فيها. والطامع بمسرات الدنيا لابد يتمتع بمزاج أريحي، يسيرٍ إلى الدعابة والضحك. والموسيقي روسّيني (1792 ـ 1868)، الذي ولد في هذه المدينة وأُقيم له مهرجانُها، ليس استثناءً. فقد احتفت موسيقاه بالأريحية وخفة الدم والدعابة، حتى أنه حين أتيح له أن يلتقي بيتهوفن عام 1822، وكان في الثلاثين من عمره وبيتهوفن في الواحدة والخمسين، نصحه الكهل الأصم بأن ينصرف في موسيقاه إلى الأوبرا الكوميدية وحدها: “آه، روسّيني. إذن أنت الذي ألّف أوبرا “حلاق إشبيلية”. أُهنئك. سوف تُعزف هذه ما بقيت الأوبرا الإيطالية. لا تحاول أبداً أن تؤلف غير الأوبرا الكوميدية. أي منحى آخر سيفسد عليك طبيعتك”. ولكن روسيني كان قد ألف غير الكوميديا وبرع فيها، خاصة أوبرا “وليم تَل” الملحمية (عن مسرحية شعرية لشيلر)، التي شاهدتها في هذا المهرجان.في سنوات الصبا كنت مولعاً بمفتتحٍ موسيقي لبرنامج “الرياضة في أسبوع” الإذاعي. لم أكن أحفل بالرياضة، ولكن المفتتح الموسيقي كان قد أضفى على ذائقتي مباهج موسيقية لا عهد لي بها في ألحاننا العربية، التي كنت أحفظها بطواعية. مباهج الهارموني الذي يتدفق باللحن الراقص، عبر أوركسترا آلات موسيقية لا تُحصى. في ما بعد عرفت أن هذا العمل هو افتتاحية أوبرا “حلاق إشبيلية”. كما عرفت في ما بعد أن كل افتتاحيات روسيني لأعمال الأوبرا، التي بلغت 38، صارت تُعزف كأعمال موسيقية مستقلة لحلاوتها.
ولد روسّيني في عائلة موسيقية، من أب عازف لآلة البوق وأمّ مغنية أوبرا. عرفوا الترحال بين المدن الإيطالية، وبقي هو تحت رعاية جدته منذ الصبا المبكر. ولكنه شرع في الترحال مع أعمال الأوبرا التي بدأها وهو في سن الحادية عشرة. وتعلقه بموسيقى موتسارت وهايدن أهله للقب “موتسارت الإيطالي”. “إيطالية في الجزائر” من أعماله المبكرة التي شاهدتها في المهرجان، بإخراج غاية في البراعة والحيوية (جوسي أنسينار)، وكانت مطلع شهرته وهو في العشرين. ثم عززتها أوبرا “تانكريدي” التي أُخذت عن عمل تراجيدي لفولتير. ولكن المجد تأصل مع أوبرا “حلاق إشبيلية”، حيث أصبح روسيني في مطلع العشرينيات من عمره معبود الجمهور في إيطاليا، وواسع الشهرة في عموم الغرب. حتى أن حيويته في التأليف ظلت مثار دهشة حتى اليوم. ففي ثماني سنوات (1815 ـ 1823) أنجز عشرين أوبرا منها “عطيل” و”سميراميس” و”سندريللا” و”موسى في مصر”. و”حلاق إشبيلية” ذاتها أنجزها بأقل من أسبوعين. وفي التاسعة والثلاثين من العمر، بعد أن أنجز أوبرا “وليم تَل” في باريس عام 1829، توقف عن التأليف تماماً.على أنه في هذا العمر الذي يُحسب على عمر الشباب كان قد أنجز 38 أوبرا.الغنى الباهر الذي حققه روسيني لنفسه، حصاداً لنجاحاته، لم يمنع موهبته من أن تتوقف فجأة. فهو بعد عام توقفه حتى عام وفاته 1868 لم يُنجز إلا “ستابات ماتر” (عمل كورالي) وبضعة أعمال على آلات متنوعة، ثم حلّت عزلة لا تخلو من لمسة غرائبية في حقل اهتماماته: ذكاء ساخر، اهتمام بعالم الأسماك، ولامبالاة مثيرة، إلى جانب شهية وتأنق في حقل الطبخ والطعام، الذي كان يُشرف عليه بنفسه. حتى اشتهرت بين رواد المطاعم في إيطاليا وفرنسا، التي عاش سنواته الأخيرة فيها: أكلات تُعرف باسمه، مثل Tournedos Rossini التي يمكن أن تطلبها اليوم من قائمة الطعام. ترك روسّيني لورثته قسطاً من ثروته، والقسط الأكبر تركه لكوميونة مدينة بَزارو، لتكون راعية لمعاهدها وجوائزها الموسيقية، ولنشاطها الموسيقي الأشهر «مهرجان أوبرا روسيني» هذا، الذي تمتعت بفضائل دعوته هذه الأيام.