في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، تأسست جماعة دينية في مصر  تحت اسم «الناجون من النار»، مزجت بين  فكر التوقف والتبين الذي يهتم بالدعوة على أسس سلمية، وبين فكر الجهاد الذي يؤمن بالعمل المسلّح، وكان أول ما فعله التنظيم أن دبّر، في صيف 1987، ثلاث عمليات مسلحة، بدأها بمحاولة اغتيال حسن أبو باشا، رئيس مباحث أمن الدولة آنذاك الذي نجا بأعجوبة، وأعقبها بمحاولة ثانية استهدفت «النبوي إسماعيل» وزير الداخلية، واختتمها بمحاولة اغتيال الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد الذي نجا أيضاً. بعدها تم اعتقال قادة التنظيم الذي تفكك وانهار، بعد التحفظ على قائده (1993)!

Ad

  رصدت السينما المصرية ما جرى، وقدمته في فيلم عام 1994، اختارت له عنوان «الناجون من النار» (120 دقيقة)، كتبه محمد شرشر وأخرجه علي عبد الخالق وأنتجه الخبير السياحي د. عادل حسني، لكنَّ قراراً غامضاً صدر بحظر عرضه التجاري، عقب عرضه الأول والأخير في مهرجان الإسكندرية السينمائي، ولاقى وقتها سخرية واسعة من الجمهور الذي لم يفطن إلى خطورة رسالته!

قفز إلى ذاكرتي فيلم «الناجون من النار»، وأنا أراقب تطورات الأحداث الأخيرة في مصر، وتنامي تيار العنف المتستر وراء الدين؛ إذ اكتشفت أن الفيلم في حاجة إلى إعادة قراءته، واستكشاف الجوانب المضيئة فيه، ومن ثم ردّ الاعتبار إلى صانعيه؛ فمع المشهد الأول يُحدد الفيلم موقفه؛ فنتابع صلاة جماعية في مغارة مهجورة، يبدو قاطنوها وكأنهم «أهل الكهف» في صورتهم العصرية، لكن هاتفاً خفياً يباغت أحد الرجال مُحذراً إياه من الانسياق وراء دعاة الجهل، وهو الذي تربى على أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويلومه بسبب انغماسه في القتل، حتى أنه لم يستثنِ شقيقه من أفكاره الشريرة، ولحظتها يتصور الرجل أنها وسوسة شيطان فيما يُخيل لزوجته أن مساً من الجنون أصابه، وبعدها تحتدم لعبة «القط والفأر» بين جماعات العنف والأجهزة الأمنية!

فيلم شجاع فضح وناهض جماعات شيطانية عاثت في البلاد فساداً باسم الدين، مثلما تبنّى موقفاً صريحاً، من دون مواربة أو تردد، في حقبة خشي فيها كثيرون من إعلان موقفهم الرافض لأفكار هذه الجماعات، ومن جهر منهم برأيه تلقى تهديداً بالقتل، كما حدث مع نقيب الصحافيين الأسبق.

لكن ربما يتصور من يُشاهده، بمقاييس ومعايير اليوم، أن المخرج، ومن قبله المؤلف، استعارا الصورة النمطية لقائد الجماعة الداهية الذي يأمر ويُنهي ويغسل العقول، والحال نفسها مع أعضاء «الجماعة» بسحنتهم المكفهرة، ووجوههم الكالحة التي يكسوها الغضب، ممن يعيشون حال انصياع أعمى لمبدأ السمع والطاعة، فضلاً عن غلظة قلوبهم وقسوتها. لكن القراءة الموضوعية للفيلم، ومراعاة الظرف التاريخي الذي أنتج فيه (1994) يقودنا إلى يقين جازم بأنه دقّ ناقوس الخطر، في وقت مبكر للغاية، بالإضافة إلى نجاحه في فضح أسلوب و»تكنيك» هذه «الجماعة» الشريرة الذي لم يتغير؛ فالنهج الذي اتبعته جماعات العنف، وكشف عنه الكاتب محمد شرشر في فيلم «الناجون من النار»، هو نفسه الذي يواجهنا في 2013؛ حيث إدمان العمل السري، واللجوء إلى التمويه قبل ارتكاب الجرائم القذرة، واستباحة القتل بدم بارد وخسة وغدر، والإيمان بمبدأ «اضرب واجري» ثم الاختباء كالجرذان بين الأهالي العُزل، والتغرير بالشباب عبر إقناعهم بأن موعدهم الجنة، والدفع بهم إلى البؤر الساخنة، بينما يحصن «القائد» نفسه في «الكهف». بالإضافة إلى أسلوب المقايضة والابتزاز، والدخول في صفقات سرية، للحصول على مغانم، ما يعني «ألا شيء تغير»، وأننا لا نقرأ التاريخ، ولا نشاهد الأفلام!

 بالطبع لا يخلو «الناجون من النار» من بعض المواقف الميلودرامية التي تخاصم العقل والمنطق، فضلاً عن رداءة تنفيذ مشاهد الحركة، لكنه نجح في رصد تنامي ظاهرة التطرف الديني، من خلال عائلة يمكن النظر إليها باعتبارها نواة المجتمع بل هي «الوطن» الذي شهد تغييراً جذرياً، تحوّل البيت بعده إلى ساحة لكتب التطرف، ومرتع للتغيير المصحوب بالعنف، وأصبح الطبيب الذي أطلق لحيته، عدواً لشقيقه الضابط، بعد انضمامه إلى تنظيم ديني إرهابي، واختار القسوة نهجاً، ومصادرة حرية شقيقته هدفاً.

يبقى الفيلم أقرب إلى الوثيقة السينمائية التي أهملها الجميع، ولم يلتفت إليها أحد، على رغم جدية صانعيها وشجاعتهم في تفنيد مزاعم جماعة آمنت بالعنف، وتدثرت بعباءة الدين، كوسيلة للوصول إلى السلطة، وبدلاً من الالتفات إلى الفيلم وتحليل مضمونه بعناية ودقة، تجاهلناه وازدريناه، بينما كان بوسعنا أن نتعرّف، من خلاله، إلى نهج تفكير تلك الجماعات الدينية المسلحة، والآلية التي تحرّك سلوكياتها، وتحدد مصائرها ومآربها... وربما كنا تجنبنا شرورها!