ما حدث في قبرص لا يبقى في قبرص، بل يؤدي إلى تداعيات على الاتحاد الأوروبي ويكشف طريق عمل هذا الاتحاد. كذلك له تداعيات على الولايات المتحدة. لذلك على هذه الأخيرة أن تتأمل جيداً "معمعة" قبرص هذه. يقول مثل قديم إن أسلوبك في معالجة مشكلة يكشف أسلوبك في معالجة كل المشاكل. وهكذا يُظهر كل تصرف- سواء كان ناجماً عن إنسان أو دولة- شخصية مَن أقدم عليه.

Ad

أوشكت قبرص أن تقتطع المال من حسابات مواطنيها المصرفية لتسدّد كلفة عملية الإنقاذ. كانت هذه الخطة الكبرى التي طرحها قادة الاتحاد الأوروبي، علماً أن هؤلاء القادة يجب أن يعرفوا جيداً مساوئ أن يطلبوا من دولة سرقة مواطنيها بين ليلة وضحاها. لم تلقَ قبرص معاملة جيدة. ولا شك في أن هذا سينعكس سلباً على كل المفاوضات المستقبلية، خصوصاً مع الولايات المتحدة التي ستعمل على توثيق ارتباطاتها المالية مع الاتحاد الأوروبي بدءاً من السنة الحالية.

شهدت الأيام التي سبقت تصويت البرلمان القبرصي الكثير من التبجح البشع من وزراء المالية في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إدعاء وزير المالية الفرنسي بيير موسكوفيتشي الذي جاء في غير محلّه ونمّ عن ثقة مبالغ فيها. فقد أكد "أن ما من خطة بديلة". وما الأسوأ من دولة تقترح غارة مفاجئة على المصارف؟ دولة تدعو إلى غارة مفاجئة على المصارف لأن ما من خطة بديلة.

لا بد من الإشارة في هذا الصدد الى أن الخطة الأساسية أخفقت، وأن قبرص تبحث راهناً عن خطة بديلة. وكدليل على المأزق الحرج الذي وجدت قبرص نفسها فيه، اقترح كبير أساقفتها أن الكنيسة الأرثوذكسية تستطيع بحد ذاتها شراء سندات البلد وتسديد المال للدائنين. إلا أن ذلك سيكون أشبه بسرقة (القديس) بطرس للدفع لبولس، أو ربما تأدية نذور الفقر حرفياً.

نتيجة لذلك، تحولت قبرص إلى قصة تحذر من سياسة التفاوض الأكثر فشلاً والأكثر استمرارية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي: التنمر.

لا شك في أن قبرص دولة صغيرة، ولا تستطيع المقاومة، سواء مالياً أو سياسياً. لكن المعاملة السيئة التي تعرضت لها تتلاءم مع طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع دول أخرى عندما أدرك أنه يتمتع بالأفضلية، بما فيها اليونان والبرتغال. في كل من هاتين الحالتين، اعتمد بعد أعضاء الاتحاد الأوروبي على الأحكام النمطية الثقافية ليبرروا انقلاب المفاوضات المالية ضد البلد. ففي حالة اليونان، صوّر بعض القادة، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، البلد كما لو أنه مليء بالمتسكعين المتوسطيين الكسالى الذين يعتمدون على رواتب التقاعد ويعشقون الشمس، وذلك كي تبرر الحاجة إلى فرض تدابير التقشف. لكن المشكلة لا تكمن في أن هذه الكلمات مهينة، بل في أنها غير صحيحة أيضاً. فقبل أن ترفع الأزمة معدلات البطالة، كان اليونانيون والإيطاليون والإسبان يعملون لساعات أطول بكثير من الألمان كل أسبوع. لكن هذه الوقائع غير الملائمة ضاعت بطريقة ما خلال عملية توجيه اللوم الاقتصادي.

ستلاحظ أن كلفة المعضلة القبرصية تكمن، مثلاً، في واقع أن معدلات فائدتك على المدخرات ستبقى منخفضة جداً. يسعى مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي، الذي يحدد أساس معدلات الفائدة في الولايات المتحدة، لحماية الاقتصاد الأميركي من استعداد أوروبا الدائم للمخاطرة بالتسبب في أزمة مصرفية. ولا شك في أن أمراً مماثلاً قد يرغم البنك المركزي الأميركي على بذل مجهود مضاعف للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في البلد، محاولاً إبقاء معدلات الفائدة منخفضة حتى مرحلة متقدمة من عام 2016، وفق بعض الباحثين. كذلك سيشعر الاحتياطي الفدرالي بالضغط ليواصل تحفيزه أسواق السندات. وإن كنت تملك سندات ادخار، وهي سندات الخزينة الأميركية، فستشعر بالنتائج لا محالة. فكلما عانت أوروبا أزمة مالية، سارع المستثمرون الأجانب إلى شراء سندات الخزينة الأميركية.

أما التأثير الآخر الذي ستشعر به الولايات المتحدة ومواطنوها بسبب المعضلة القبرصية، فيشمل نوع الأطعمة التي ستراها في المتاجر والسيارات التي تُعرَض للبيع.

ستشكل الزراعة، مثلاً، الاختبار الأكبر للاتحاد الأوروبي ولطريقة تعامله مع الولايات المتحدة. فالزراعة خاضعة لاتفاق تجارة حرة سيحاول الاتحاد الأوروبي مقاومته بشراسة. على سبيل المثال، يشير مارسيل فراتزشر، رئيس المؤسسة الفكرية DIW Berlin، في مقال نُشر في Financial Times إلى أن الولايات المتحدة مُصدّر كبير للمنتجات الزراعية وأن أوروبا تعتمد كثيراً على اقتصادها الزراعي الخاص. تُعتبر الزراعة أحد الأوجه المشرقة القليلة في الاقتصاد الأوروبي، مع ارتفاع "الدخل الزراعي الحقيقي لوحدة العمل" (أحد معايير الربحية) بنحو 28.5% بين عامَي 2005 و2012. في الوقت عينه، تشهد أسعار المنتجات الغذائية ارتفاعاً سريعاً. ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي لا يريد التنافس مع الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، تُعتبر تنظيمات الأمان والغذاء الأوروبية متشددة جداً وتتعارض بطبيعتها مع الممارسات الزراعية وإنتاج الطعام الأميركية: فدجاجنا المغسول بالكلور لقتل البكتيريا لا يستوفي الشروط الأوروبية. كذلك يشكل استخدام الهرمونات في إنتاج اللحوم الأميركية عقبة أخرى.

نظراً إلى هذه المسائل الشائكة، يتوقع البعض أن تستغرق الصفقة التجارية الأميركية-الأوروبية سنتَين من التفاوض، مع أن تاريخ التجارة عبر الأطلسي قوي ومتين. ويجب أن نتوقع النمط عينه في مفاوضات الإنقاذ الأوروبية: تأخير، وعندما يخفق التأخير يأتي الاعتماد على الأحكام النمطية الثقافية، وعندما تخفق هذه مجدداً ينتقل الاتحاد الأوروبي إلى "التنمر". لربما يستطيع هذا الاتحاد تغيير أسلوبه. ولكن عليه أن يعمل بكد، مبرهناً أنه يستطيع بناء سجل من المصداقية العالية في أسلوبه التفاوضي.

* Heidi Moore