كتب مترجم ديوان{هنا، أيتها الرصاصة» حيدر الكعبي مقدمة بعنوان «براين ترنر: شاعر أم جندي؟» قال فيها: «كان براين شاعراً متنكراً في زي جندي، أو جندياً مصاباً بلوثة الشعر. والمصاب بلوثة الشعر، كما يقول ثرفانتس، لا أمل في شفائه. ومن أغرب الأمور أن هذا الداء لا يؤهل الجنود المصابين به للتسريح لأسباب صحية. وقد التبس الشاعر بالجندي زمناً طويلاً في شخص براين، فجاءت تجربته في العراق لتمثل طقس التحول ولتسمه بميسم النار إلى الأبد، ولتدفع بالتناقض بين الشاعر والجندي إلى حدوده القصوى. جاءت لتكون الرصاصة التي تخطئ الشاعر وتصيب مقتلاً من الجندي الذي راح يتهاوى ببطء بكامل تجهيزاته العسكرية مع تهاوي طائر الكركي على الطريق السريع رقم واحد».

Ad

ما يدعو إلى المُساءلة، بحسب المترجم، حقيقة أن براين ترنر، الشاعرَ المناهض للحرب، لم يُجْبَرْ على دخول الجيش، بل تطوع فيه مختاراً، وكان قد تجاوز الثلاثين من عمره، ويحمل شهادة الماجستير. وقليلون هم من التحقوا بالجيش الأميركي في هذه السن ويحملون هذه الشهادة. لذا كان عليه أن يتوقع السؤال نفسه يتكرر في كل مقابلة تُجرى معه: «لماذا تطوعت في الجيش؟»، وكان عليه أن يجيب بأشكال مختلفة، رافضاً أن يعزو الأمر إلى سبب وحيد، أو أساسيّ، أو حاسم. ذكر: «أحياناً أمزح مع الناس فأقول إننا نحتاج إلى أن نجلس ونشرب لنصل إلى جذر السؤال». يقول الكعبي: «لو غربلْنا إجاباتِهِ العديدةَ على السؤال الملحاح، لوجدناها تتلخص في ثلاثة عوامل: عاملٍ اقتصادي، وعامل عائلي، وعامل سايكولوجي. يقول عن العامل الأول: «ربما لم أكن لأفعلَها لولا عواملُ اقتصادية كثيرة. كنت قد تزوجت منذ فترة قصيرة، وفكرت أنني سأعود مما وراء البحار لأكوّن عائلة. وكانت تلك طريقة عملية جداً لحل الكثير من المشاكل في ذلك الحين». ويضيف في مقابلة أخرى: «كنت حديث عهد بالزواج والالتحاق بالجيش حلَّ فوراً معظم المشاكل المالية التي كانت تقلقني، وسدد قروضي الدراسية». وهذا يشي بأن براين يتحدر من طبقة فقيرة، وإلا لما اضطر إلى الاستدانة كي يواصل دراسته الجامعية. الأمر الآخر في علاقة براين بالجيش أنه نشأ في عائلة مرتبطة بالجيش أباً عن جد. فوالده كان مترجماً في الجيش الأميركي أبان الحرب الباردة، ولم يكن غريباً أن يلتحق بالعسكر. ولعل العالم الأبرز في اهتمام هذا الشاعر بالجيش هو العامل السيكولوجي، فقال براين: «يتعلق الأمر بنوع معين من طقوس التحول أو الوَسْمِ بالنار، وهي من الثيمات التي ربما كانت، وأنا أكره الاعتراف بهذا، في تركيبتي السيكولوجية، وذلك أحد الأسباب التي دفعتني إلى الالتحاق بالجيش». لكن التركيبة السيكولوجية تتصف بالثبات النسبي، وإجابة الشاعر هذه لا توضح السبب الذي عطَّل هذه التركيبة عن العمل طوال سنوات شبابه الأولى، ثم جعلها تنشط فجأة حين بلغ عامه الواحد والثلاثين. وهل الجندية هي السبيل الوحيد إلى مزاولة شعائر التحول والوسم بالنار؟ فالشاعر، حسب تصريح آخر له، لم يكن يرى في الانتساب إلى الجيش سوى وسيلة لتحقيق رغبته في السياحة. أيعني ذلك أن السياحة وطقوس التحول والوسم بالنار شيء واحد؟ في ما يتعلق بالتحاقي بالجيش، فإن جزءاً مني فعل ذلك لأنني ببساطة كنت أفكر في الإطلاع على أماكن جديدة والسفر. صحيح أن هذه رؤية ساذجة جداً للحياة العسكرية، ولكنَّ هذا شكَّل جزءاً مما كنت أفكر فيه». ولكن لماذا الجيش؟ ما الذي كان يحول دون تحقيق رغبة براين ترنر بالسياحة والسفر مستقلاً عن الجيش؟ فإذا كانت شحة النقود هي الحائل فنحن ما زلنا ندور في فلك العامل الاقتصادي.

لا يذكر براين أسباباً سياسية لتطوعه في الجيش، كـ «الدفاع عن الوطن» مثلاً، وكان أحد أسباب التحاقه به الرغبة في السياحة. ثم حين ذهبتْ وحدته إلى العراق ذهب معها، رغم أنه في قرارة نفسه كان «ضد الحرب منذ البداية»، أي قبل ذهابه. «ولم يتغير شيء منذ ذلك الحين، سوى أن هذه القناعة قد تعمقت واشتدت».  

غزو العراق

 من خلال تجربة براين ترنر، علينا التأمل قليلاً في ظاهرة الجنود الأميركيين الذين كتبوا عن مشاركتهم في غزو العراق، وقد كتبوا شعراً ونثراً عن هذه التجربة، فقد صدر عن «دار الجمل» كتاب بعنوان «طير العراق- سجلّ جندي من العراق» لكاتبه الجندي الأميركي جانثن ترورن - ترندن والذي خدم في العراق سنة كاملة، وفي الكتاب يستعرض الجندي مغامراته في رصد أنواع الطيور في العراق، من دون أي ذكر لضحايا الحرب المستعرة حوله. ويقول: «عندما أفكر في الوقت الذي أمضيته في العراق، أفكر أولاً بالأشياء الطيبة: أفكر بأصدقائي العراقيين والأميركيين، والوقت الذي أمضيته وأنا أشاهد الحياة الطبيعية في العراق. ورغم أنّ وحدتي الطبية رأتْ وجهَ الحرب القبيح، إلا أنني اكتشفت بلداً غنياً بالتاريخ والجمال الطبيعي». وعبر الكتاب يتناول المؤلف أنواع الطيور في العراق، القاطنة منها والمهاجرة وغيرها، مسجلاً مشاهداته على شكل يوميات، ومضمّناً الكتاب بعض الرسوم التوضيحية.

الطيور العراقية لم تستهو جانثن ترورن – ترندن فحسب، فكيفين باورز، حينما بلغ من العمر 17 عاماً تم تجنيده في الجيش الأميركي في المدفعية، حيث انتقل إلى العراق مع قوى الاحتلال عام 2003، وهنا بدأت تجربته التي كتب عنها روايته «الطيور الصفراء»، والتي قص من خلالها تجربته، خلال أعوام أمضاها في الحرب وسط مقاومة الشعب العراقي لهم، والتي وصفها بـ{كما تُلقى الصلصة الحارة في عينك هكذا كانوا يقاومون». يصف باورز معاناة بارتون وميرفي في التدريبات وحرب الشوارع في تلعفر وسط تعليمات قائد الكتيبة الذي كان يلكمهم في وجوههم ويركل مؤخراتهم كي يلتزموا حرفياً، وينصاعوا لأوامره، ويصف الكاتب حروب الشوارع في تلعفر بأنها ليست فقط دموية إلى أقصى حد بل هي مرعبة ومثيرة للذعر المرضي، حيث كانت أسطح المنازل مغطاة بألواح النحاس والأبواب ملونة بلون الدماء، بينما كانوا يأتمرون هم لأمر قائدهم بمقاتلة من أسماهم «المتمردين» ومقاومة الضغط النفسي، حيث كان يقتل في داخلهم هذا القائد كل ما قد يوجد من إنسانية قد تقلل من كفاءة جندي الاحتلال في مقاتلة السكان المقاومين لهم، حيث وصف لهم القائد تلك المشاعر بـ{الضغط النفسي الذي سيؤدي بهم إلى العودة إلى بلادهم. ولكن في صناديق الموتى».

أما بنيامين بوتشهولز فتأثر بتجربته كجندي في ثاني يوم لوصوله إلى العراق بقصة فتاة صدمتها وقتلتها قافلة عسكرية بينما كانت تحاول الحصول على زجاجة مياه كانت تلقى للأطفال على جانب الطريق كهدايا. طاردته مأساة الفتاة وما تبعها من مشاهد بكاء النساء وجثة الفتاة وقد غطيت بملاءة على الأرض وغضبة السكان حتى أصبحت نواة رواية ساعدته على تحقيق حلم قديم راوده بأن يصبح كاتباً ويدون روايته تحت اسم «مئة ليلة وليلة» في محاكاة مقصودة لكتاب «ألف ليلة وليلة» حيث يعتمد على أسلوب القص الشفهي للأحداث. والشخصية الرئيسة في الرواية هي أبو صحيح، وهو عراقي عاد إلى العراق حيث يدير متجراً للهواتف المحمولة ويسعى إلى إعادة بناء حياته بعد 13 عاماً أمضاها في الولايات المتحدة.

حديقةُ حيوانات بغداد

«هل العالم أكثر أمناً؟ كلا، إنه ليس أكثر أمناً في العراق»

هانز بلِكس

هنالك دبٌّ من شَمال العراق، بنيُّ اللون، يمزّق رجلاً

في زاوية شارع، ويسحله إلى أحد الأزقة

والمتفرجون المصعوقون يتصايحون ويرمون الحجارة.

الدبابات تدير سرفاتها الثقيلة

مجتازة المتحف باتجاه وزارة النفط.

أحد الرماة يراقبُ أسداً يتعقّب حصاناً.

الزرافات المأكولة حتى هياكِلها العظمية

تشبه مخلوقاتٍ خياليةً مما قبل التاريخ،

أعناقها أرشقُ وأرقُّ من أن تناسبَ القرن الواحد والعشرين.

البَجَعُ والحِذَّافُ يفرُّ مذعوراً

من عَصْف مراوح الـ (بلاك هوك)

وهي تحط على الأرض.

ثمة سِعدانٌ كبير يفلت خارج حدود المدينة

ثم يُعثر عليه هائماً في الصحراء،

وقد أربكتْهُ الرياح

والرمل المتطاير من الكثبان.