وأنا أخرج من مطار "هيثرو" في اتجاه موقف سيارات الأجرة التي تأخذ زوار بريطانيا العظمى إلى لندن، اعترض طريقي شاب بملامح عربية، وقال لي بارتباك: "إنني أعرفك... لقد رأيتك مرات عدة"، وعندما عرفته بنفسي اندفع نحوي وقبلني وعيناه تذرفان دموعاً ساخنة، ثم قال كلاماً كثيراً من بينه: "إننا لن ننسى من وقفوا مع الشعب السوري في محنته هذه... وأنت من الذين وقفوا مع هذا الشعب وسيأتي اليوم الذي سنرد فيه الجميل لك ولغيرك بإذن الله".

Ad

لن أذكر اسم هذا الشاب السوري، الذي لجأ إلى بريطانيا، كما قال، قبل اثني عشر عاما، خوفاً على أهله من أن تفعل بهم قطعان "الشبيحة" الطائفيين ما فعلته من جرائم في العديد من المدن والقرى السورية، ثم زودني برقم هاتفه وأصر على أن نلتقي وأن يدعوني لتناول الغداء مع عدد آخر من الشبان السوريين من أمثاله، لكنني بالطبع لم أقبل هذه الدعوة لانشغالي بمواعيد طبية، ولأنني بالأساس أرفض ألا يعتبر انحيازي للانتفاضة السورية ضد الذبح والتبشيع واجباً وطنياً وقومياً وإنسانياً لا أريد عليه حمداً ولا شكوراً.

بعد يومين، وبينما كنت أقف على رصيف أحد الشوارع اللندنية، بالقرب من متاجر "هارودز" الشهيرة اقترب مني شاب، وأنا أتصفح صورة مرعبة لأطفال سوريين من ضحايا مجزرة "رأس النبع"، وأخذ يصرخ بصوت مرتفع: "يا أخي حلوا عن الشعب السوري... أنتم إرهابيون، أنتم من جبهة النصرة". وقد كان ردي عليه أن سألته: هل أنت من سفارة القطر العربي السوري؟ فأجاب نعم، وأضاف: "أنا أيضاً من الذين يفدون الرئيس البطل بشار الأسد بأرواحهم".

لم أعلق على ما قاله هذا الشاب، وواصلت التدقيق في الصورة المرعبة التي نشرتها صحيفة "الحياة" اللندنية على ثلاثة أرباع الصفحة الأولى: أكثر من عشرة أطفال غارقون في دمائهم... أجسادهم الصغيرة مزقتها شظايا قنابل الذين يفدون بشار الأسد وحسن نصرالله وعلي المملوك بأرواحهم. أحدهم كانت تحتضنه أمه لتحميه من أنياب الضباع المسعورة قبل أن تتلقى رشقة من رصاص "كلاشنكوف" أحد "الشبيحة" الطائفيين الذين سيأتي يوم يكون حسابهم فيه عسيراً.

إنها صورة مخيفة ومرعبة بالفعل، وأقترح أن تعتمدها الأمم المتحدة والهيئات الدولية والثورة السورية أيضاً دليلاً على بشاعة وهمجية هذه الحرب التي يواصلها بشار الأسد على شعب ليس هو شعبه بالتأكيد، ثم إنني أقترح أن تعرض هذه الصورة في ميادين وساحات كل المدن العالمية التي كانت وقفت إلى جانب الشعب الإسباني ضد دكتاتورية فرانكو، وضد كل الذين أيدوه في تلك الحرب القذرة التي خلد بشاعتها وبربريتها الفنان العظيم بابلو بيكاسو في رائعته التاريخية "غورنيكا".

لقد جسد بيكاسو في لوحته التاريخية هذه مأساة الحرب الإسبانية، حيث أصبحت هذه اللوحة شعار مناهضة ومقاومة كل الحروب القذرة، فـ"غورنيكا" هي قرية وادعة مثلها مثل قرية "راس النبع" السورية كانت داهمتها الطائرات الإيطالية الفاشية والألمانية النازية صبيحة يوم السادس والعشرين من أبريل عام 1937 بطلب من ذلك السفاح الدكتاتوري فرانكو فحولتها إلى "عصف مأكول"، وجبلت مزق لحم أطفالها بمزق لحم بهائمها من خيول وأبقار وأغنام، وهذا هو ما حصل قبل أيام في هذه القرية المنكوبة الآنفة الذكر.