لبنان الذي لا تتوقف الكتب عن تعريفه

نشر في 04-02-2013
آخر تحديث 04-02-2013 | 00:02
No Image Caption
لا تتوقف الكتب الأدبية والشعرية والفكرية عن تعريف لبنان، بطريقة لا تخلو من كليشيات فلكلورية ونرجسية. فمنذ كنا على مقاعد الدراسة، اتحفنا المنهج التعليمي الرسمي بقصيدة «وطن النجوم أنا هنا» لإيليا أبو ماضي، وحين خرجنا في رطانة الثقافة الرسمية، وجدنا لدى فصاحة شعراء الحداثة اللبنانية عبارة «لبنان الشاعر» أو «لبنانات الحلم» بحسب قول الشاعر الفرنسي آرثور رامبو.
يمكن للبنان دخول موسوعة «غينيس» من خلال كثرة تعريفاته، بدءاً من تعريفه في الدستور: «لبنان ذو وجه عربي ولغة عربية وهو جزء من العالم العربي»، مروراً بـ{سويسرا الشرق» و{البلد الأعجوبة»، و{بوابة الشرق» وصولاً إلى «خاصرة العرب الرخوة».

وكثرت تعريفات لبنان في مرحلة «الندوة اللبنانية» التي كان يديرها ميشال اسمر، وقد أصدر مركز فينيكس للدراسات اللبنانية ومنشورات جامعة الروح القدس الكسليك كتابين: «لبنان بقلم مفكّري الندوة» و{لبنان: المفهوم والتحديات»، يضمان نصوصاً مختارة لمفكرين «آمنوا بالفكرة اللبنانية» و{استرسلوا في مكوّنات وطن الأرز وثوابته»، وفي الكتابين تعريفات متنوعة للبنان بأقلام مفكرين وسياسيين من ميشال شيحا إلى شارل مالك وتقي الدين الصلح... فميشال شيحا، أعلن في محاضرته لبنان ابناً لفينيقيا، وليد لقاء الجبل والبحر، ملجأ للمضطهدين، والذي أصبح مع فخر الدين «أرض ميعاد» للأقليات الروحية القلقة، آخذاً في الاعتبار هذه الوقائع، ومضيفاً إليها واقع كون لبنان على مفترق طرق تصل الجنوب بالشمال والشرق بالغرب. وفي رأي شيحا، يشكّل «لبنان في شخصيته وحضوره» امتداداً لفينيقيا القديمة، و{فينيقيا هي البحر أوّلاً، وجبل لبنان ما هو بتحديده سوى الجبل، ومن تداخل البحر والجبل كانت جمهوريتنا». في زمن الخلافة العثمانية، «تخطى الجبل البحر، وأضحى ملاذاً للحريات»، ومع ولادة الدولة اللبنانية، اتّحد الجبل بالساحل.

يمضي المفكر في وصف الخصائص التي يمتاز بها لبنان، مؤكّداً: «للبنانيين كافة وطن واحد هو البحر والجبل معاً، فهم حفداء أولئك الجبليين البحارة الذين يختلفون عن جيرانهم بأكثر من وجه». يختلف اللبناني عن جيرانه، كما يختلف هؤلاء الجيران بعضهم عن البعض. «هكذا يبدو لبنان فينيقياً بامتياز، و{هو جمهورية بحرية متوسطية، قبل كل شيء، تتناهى على سحابة مئتي كيلومتر شطاً وخمسين لا أكثر في البر الداخلي»، كما «كانت فينيقيا بمختلف أسمائها منذ خمسة أو ستة آلاف عام». وشعبه «أمة بحرية في جوهره»، وما الجبل «سوى الحصن الذي ينيف على البحر ويحميه». يشير ميشال شيحا هنا إلى امتداد فينيقيا وتخطّيها الحدود اللبنانية من «الكرمل الى أرادوس»، أي أرواد، ويرى أن على سورية أن تتقبل هذا الامتداد «بصدر رحب»، «حباً لطرطوس واللاذقية ليس غير»، ويضيف: «أسارع إلى القول، تفادياً لكل لبس، إنه ليسعد اللبنانيين أن يروا سوريا بحسب مرتجاهم، جارةً على مزيد ازدهار، وما يتمنونه لها وما يبغون أن تلبث سوريا أمينة على مصيرها ذاته، وهي التي يتنازعها شرق وغرب».

هويات كثيرة

الحال أن كثرة تعريفات لبنان هي إشارة إلى كثرة هوياته، فميشال شيحا الكلداني من أصل عراقي والنائب اللبناني، كان يؤمن بقومية لبنان استناداً إلى «خرافات فينيقية». أما رئيس الوزراء اللبناني الراحل تقي الدين الصلح فألقى محاضرة في «الندوة اللبنانية»، تكمن أهميتها في كونها تعبّر عن تنوّع التيارات الفكرية تحت قبّة «الندوة». والأهم من ذلك هو أن هذه المحاضرة تظهر كم كان التيار العروبي قد تصالح مع فكرة لبنان، وهذا ما تجسّده عبارة تقي الدين الصلح: «الكيانات العربية المختلفة في نظرنا قد قامت وتقوم إما بمشيئة الدول الأجنبية الاستعمارية التي تقاسمت الغنائم بعد الحرب العالمية الأولى، وإما لمصلحة أسر حاكمة وملوك وطبقة من الحكّام المنتفعين. أما لبنان فهو في نظرنا البلد الوحيد الذي قام كيانه مستقلاً عن سائر الكيانات العربية على إرادة قسم من أبنائه ثم على رضى القسم الآخر من سائر بنيه». وعلى أساس الفكرة التي دعا إليها مؤسس حزب النداء ورفاقه «الندائيون»، جاء في البيان الميثاقي الوزاري ما يلي: «اخواننا في الأقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون. نحن لا نريده للاستعمار مقراً وهم لا يريدونه للاستعمار إليهم ممراً، فنحن نريده وطناً عزيزاً سيداً، حراً مستقلاً».

أما المفكر شارل مالك، أحد المنظرين لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فيعلن إيمانه بالكيان اللبناني كـ{كيان حقيقي، قائم، ثابت، مستقل، باق، يريد لذاته البقاء ويعترف له العالم بحق الوجود وحق البقاء»، ويحدّد عشر خصائص له، «إذا سقطت، زال لبنان»، وهي تباعاً: «هذا الجبل الفريد، القرية اللبنانية الفذة، مركز لبنان السياحي الممتاز، تجارته العالمية العجيبة، ظاهرة الاغتراب اللبناني بكل ما تعنيه تاريخياً وكيانياً، التواجد المسيحي الإسلامي السمح الرائع، الحرية الكيانية المسؤولة، الانفتاح على العالم في المكان والزمان، معنى لبنان الفكري المتواضع، وإسهام لبنان المتواضع في المعترك الدولي».

تعريفات كثيرة ألصقت بلبنان من خلال منبر الندوة اللبنانية الذي أصبح الآن صرحاً للحنين سواء في فكرته أو أدبياته أو ناسه وجمهوره ومفكره. وعلى هامش الحديث، يمكننا التأمل في بعض التعريفات الأخرى، فحين أراد كمال جنبلاط إيجاز الكيان اللبناني في معادلة جبرية، قال إنه «فيديرالية طوائف ودكان على البحر». وبحسب وضاح شرارة، كنى جنبلاط بالفيدرالية «عن الكثرة العصية على الجمع والدمج في دولة مركزية واحدة، وبالدكان عن هوى التجارة والسعي في حوش المال والربح، ولو من طرق غير شريفة تحمل سالكها على إهمال ضوابط العداوة والصداقة والكرامة. وأما البحر، الأبيض المتوسط، فاستعارة لإدارة الظهر إلى الداخل، أو «الداخلية» العربية والأهلية القريبة والحميمة، والإقبال على البعيد والغريب، المتربص بأهل الداخلية الشر. وخلال التسعينيات من القرن الماضي لم يتردد البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي في وصف لبنان بـ{لبنان الرسالة» مع العلم أن بينه وبين الرسالة مسافة ضوئية. ولا رسالة في لبنان. إنه «مستودع الأزمات» (بحسب نصري الصايغ).

في ظلال الأرز

غداة زيارته إلى لبنان، وإلى منزل وليد جنبلاط تحديداً، كتب الروائي البيروفي فارغاس يوسا مقالاً بعنوان «في ظلال الأرز»، قال فيه: «إن في لبنان سراً غامضاً آخر، بين الأسرار الكثيرة الغامضة التي تخبئها بلاد التناقضات تلك»، فهي «قطعت شوطاً طويلاً، في التحديث مستبقة الشرق الأوسط بأسره. ولكنها أيضاً، وفي الوقت نفسه، بلاد وفيّة بصورة لا يمكن تفسيرها للإرث القبلي». وثمة أوصاف (استشراقية) يمليها الأجانب والعرب على لبنان واللبنانيات تحديداً، فقد وصف صحافي فرنسي هذا البلد الصغير بـ{نايت كلوب كبير»، معللاً ذلك بليله الصاخب وكثرة السهر فيه، إذ وضعه على لائحة القبل السياحية العالمية، وثانياً لأن النساء يخرجن دائماً من البيت بثياب السهرة (سواريه). حتى وإن كانت الواحدة منهن ذاهبة لشراء البقدونس أو الفجل فهي ترتدي «أحلى ثيابها».

هكذا حالنا، من بلد الحريات ووطن الملجأ والأقليات، «لبنان المقاومة» و{قوة إقليمية عظمى» بحسب طموحات السيد نصر لله، ومن هانوي إلى هونغ كونغ، كلها أحلام كبيرة في غرفة ضيقة، غرفة بمنازل كثيرة.

هؤلاء الذين يكثرون من إطلاق التعريفات لهذا البلد، يعرفون أن أمامهم تعريفات أخرى أكثر واقعية، وهي لبنان الوطن الصعب والدولة المستحيلة. ولم يعد لبنان وطن النجوم بل و{طن بنجوم الضهر»، بحسب تعبير أحد المواطنين.

back to top