بينما هو يواجه كل هذه الاحتجاجات التي تشهدها مناطق الكثافة السُّنية والتي اقتربت من العصيان المدني، وجَّه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اتهاماً مباشراً إلى تركيا قال فيه إنها تحاول تقسيم العراق "عبر صفقة بائسةٍ مع إقليم كردستان"، معتبراً أن التدخل التركي سيفتح الباب لتدخل دُولٍ أخرى، والمقصود هنا إيران التي بلغ تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية حداً لم يعُد يطاق، والتي هي حوَّلت هذا التدخل المتصاعد مع الوقت إلى ما يشبه الاحتلال المقنع الذي يقوم به فيلق القدس وباقي الأجهزة الأمنية الإيرانية.

Ad

لقد جاء في هذا الاتهام الذي أطلقه المالكي: أن "تركيا طلبت من التركمان عدم الاعتراض على مقترحات بأن تكون كركوك كردستانية"، وهو لم يشر إلى ردِّ هؤلاء، الذين هم مواطنون عراقيون ولا يجوز اتهامهم بوطنيتهم وتبعيتهم لدولة أخرى، وما إذا كانوا قد استجابوا لهذا الطلب التركي أمْ لا...!.

وحقيقة، إنه من المستبعد جداً أن تكون هناك مثل هذه الصفقة التي تحدّث عنها رئيس الوزراء العراقي، فتركيا في الأساس تعارض إقامة دولة كردية في كردستان العراق، مثلها مثل إيران، والسبب الخوف من انتقال العدوى "الاستقلالية" إلى أكرادها الذين تعززت لديهم مثل هذه النزعة "الانفصالية" منذ ظهور حزب العمال التركي الكردستاني وحَمْلِهِ السلاح ضد الدولة المركزية، إذ يشكل العدد الأكبر من أكراد هذه المنطقة، الذين من الظلم الفادح ألا تكون لهم دولتهم القومية أسوة بالآخرين العرب والإيرانيين والأتراك.

والمعروف أن هناك مصالح اقتصادية وتجارية بين الدولتين المتحادتين، تركيا وإيران، تقدر بنحو عشرة مليارات دولار، كما أن ما يعرفه الإيرانيون والأتراك معرفة أكيدة أن أي صدام عسكري بينهما سيُفضي حتماً، في ظل هذه الظروف التي تعيشها هذه المنطقة، إلى تمزق الدولتين، وإلى تحول كل واحدة منهما إلى مجموعة من الدويلات العرقية "الاثنية" والطائفية المتحاربة والمتنازعة، نتيجة للتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية التي هي جاهزة منذ الآن وتنتظر مثل هذه اللحظة.

ولهذا فإنه غير ممكن على الإطلاق أن يكون هناك مثل هذه الصفقة التي تحدّث عنها نوري المالكي، فتركيا ليست في وارد أن تُستدرج لحرب إقليمية في مثل هذه الظروف التي تمر بها المنطقة وهي أيضاً، وهذا ينطبق على إيران التي تواجه استحقاقات داخلية وخارجية كثيرة تجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تذهب إلى مواجهة خصوصاً مع الدولة التركية، التي هي القوة الرئيسية الأكثر تماسكاً في هذه المنطقة المضطربة.

إنه لا مجال لهذه "الصفقة البائسة" التي تحدث عنها نوري المالكي، وإن الأتراك يعرفون أن تقسيم العراق سيؤدي إلى تقسيم تركيا، ولذلك فإنَّ الأفضل، بدلاً من هذه الافتراضات غير الواقعية التي هدفها استنهاض "الوطنية" العراقية، أن يتوقف كل هذا الشَّحن الطائفي في العراق، وأنْ تلتقي كل هذه التيارات المتصارعة على برنامج الحد الأدنى، الذي عنوانه رفض الطائفية البغيضة واستبعادها، والذي عنوانه أن كل العراقيين مواطنون على قدم المساواة، فيكفي هذا البلد مذابح وإراقة دماء، ويكفي شعبه كل ما تعرض له من ويلات، سواء في تاريخه القديم أو الحديث، وهنا فإنه من المستبعد جداً أن تكون هناك مرحلة جديدة من الصراع الصفوي-العثماني!.