قد نتفهم المبررات المصلحية لحكومات وقفت متذبذبة أمام نتائج ثورة 30 يونيو، ورأت في عزل الرئيس مرسي على يد الجيش "انقلاباً عسكرياً"، لكني لم أستطع تفهم مسوغات كتّاب ليسوا من الإخوان، يقولون إنهم غير متعاطفين معهم لكنهم ضد الانقلاب على الشرعية بحجة الخوف على الديمقراطية من حكم العسكر!

Ad

دعونا نتعرف على دوافع الحكومات التي وصفت ما حصل بمصر بالانقلاب العسكري ومارست ضغوطاً سياسية على الحكومة المصرية من أجل إيجاد مخرج سياسي للإخوان:

 أولاً: هذه الدول رتبت استراتيجيتها على بقاء الإخوان في السلطة لمدة طويلة لتأتي ثورة 30 يونيو وتربك حساباتها.

 ثانياً: أميركا استثمرت في توظيف الإخوان مالياً واستراتيجياً وسياسياً، فهم مشروعها الجديد للعقود الثلاثة القادمة بالمنطقة طبقاً لإبراهيم عرفات، لاعتقادها بقدرة الإخوان على ضبط "حماس" ومنعها من ضرب إسرائيل بالصواريخ، وهو ما تم فعلاً في عملية "الرصاص المصبوب"، حيث قبلت "حماس" بالشروط الإسرائيلية وتحول قطاع غزة إلى جوار آمن لإسرائيل، بل يذهب جورج سمعان إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أن واشنطن عولت على الإخوان لإعادة ترميم المشروع الإسلامي كأساس لنظام إقليمي يشكل سداً منيعاً أمام نفوذ إيران والصين والروس.

 ثالثاً: "المزاج الغربي" عادة أكثر ميولا إلى من هم في المعارضة من السلطة، بحكم الموروث التاريخي والتعاطف الإنساني، ويتوجس من أي تدخل للجيش في الحياة السياسية، ويتمسك بـ"الصندوق الانتخابي" معياراً للديمقراطية، ومعبراً عن الإرادة العامة للشعب، وثورة 30 يونيو أدخلت الخلل على هذا النظام الديمقراطي، وأعادت إمكانية ممارسة "الديمقراطية المباشرة" في الشارع والميدان وليس عبر "الصندوق" طبقاً لناصر أمين.

 أستطيع تفهم هذه الاعتبارات في إطار المصالح السياسية بين الدول، والتي تجعل من عدو الأمس صديق اليوم، فمن كان يتصور أن الإخوان الذين قامت عقيدتهم السياسية على قاعدة محورية ثابتة "معاداة الغرب وأميركا" يصبحون اليوم أصدقاء للغرب وأميركا، ويطلبون تدخلهما لاستعادة السلطة، حتى إن صفوت حجازي يصرخ من منصة رابعة: نعم سنستدعي أميركا وغير أميركا لاستعادة الشرعية؟!

الآن: كيف يبرر كتّاب مواقفهم الرافضة بأن ما حصل في مصر إرادة أغلبية الشعب المصري، بقولهم إنه انقلاب عسكري على الديمقراطية، ثم يتهمون القوى المدنية بأنها خانت مبادئ الديمقراطية بتأييدها العسكر؟! يتحسر هؤلاء على ديمقراطية مصر ويرون في تدخل الجيش إلغاء لـ"مدنية الدولة لمصلحة طبيعتها العسكرية" كما كتب بعضهم، وهم بذلك يلغون "أهم مكتسبات ثورة 25 يناير" وأن الجيش لم يسقط الإخوان فحسب، بل أسقط "الإخوان الليبراليين".

 ويضيف بعضهم: لقد سقطت الليبرالية في مصر، ويتهمون القوى المدنية بالفشل لأنها استعانت بالجيش ويتكلمون عن صراع العسكر والإخوان على "جثة الديمقراطية" ليبلغ التشاؤم بحازم صاغية فيقول: إن مجتمعاتنا لا تنتج إلا الجيش والإسلام السياسي.

 وإذ لا أشكك في مصداقية هؤلاء الكتّاب ونبل مقاصدهم، وأتفهم مخاوفهم على الديمقراطية من حكم العسكر إلا أني أرى أن رؤيتهم جزئية لا تحيط بأبعاد المشهد السياسي المصري كاملة، فهم يغفلون تماماً أن هذا التدخل من الجيش، مسنود بدعم شعبي واسع تمثل بثورة 30 يونيو بخروج الملايين في مشهد غير مسبوق، نراهم يقللون من أهمية هذه الثورة بالتركيز على دور الجيش أو يرون أن الجيش هو الذي حرك هذه الجاهير كغطاء لتدخله لا العكس.

 ويصور هؤلاء ما حصل في مصر بأنه صراع بين الإخوان والجيش، مستبعدين دور الشعب ومؤسسات الدولة فيه، ومن ثم يحاولون الإيحاء بأنهم محايدون بين الطرفين، وينشدون الحق والحقيقة، ويتهمون الكتّاب الذين لا يقفون موقفهم بالانحياز لطرف ضد آخر، رافضين رؤية الصورة كما نراها نحن صراعاً بين جماعة الإخوان من جهة، والجيش والشعب والدولة ومؤسساتها من جهة أخرى، ولذلك ينعون على المصريين استعجالهم التخلص من حكم الإخوان بحجة أنه ينبغي عليهم الصبر حتى يتم الإخوان مدتهم!

 في تصوري أن مواقف هؤلاء الكتّاب قائم على مجموعة من الأساليب الهشة والتصورات الموهومة، وأوضح ذلك فيما يأتي:

1- لو لم يهب المصريون لتخليص أنفسهم من الحكم الإخواني، لاستحالت زحزحة الإخوان بعد استكمالهم خطة "التمكين"، وإدخال كافة مؤسسات الدولة "بيت الطاعة" الإخواني، وبخاصة بعد تغيير المناهج الدراسية وتدجين الإعلام وتطعيم الأزهر بعناصر إخوانية وتغيير طبيعة الدولة المدنية.

2- لو أمهل المصريون الإخوان مدة أطول لتحولت مصر إلى دولة أخرى من حكم "ولاية الفقيه"، ولكن بنكهة سنية، ولتعذرت إزاحتهم لا بانقلاب عسكري، لأنهم يكونون قد طوعوا الجيش، ولا بصندوق انتخابي، لأنهم يكونون حينئذٍ قد عبثوا بالنظام الانتخابي لمصلحتهم.

3- إذا كان الإخوان وهم لم يمكثوا في الحكم إلا سنة، اليوم بهذا العنف والضراوة والترويع للمجتمع والدولة التي اضطرت لفرض حالة الطوارئ، فكيف تكون الحال إذا طال بهم المقام؟!

4- "المفهوم الملتبس للشرعية"، الشرعية مصدرها الشعب، والشعب الذي سبق أن أسقط نظام مبارك هو نفسه الذي أسقط حكم الإخوان، وسانده الجيش، ومن حق الشعب الذي منح الشرعية أن يسحبها، والشرعية إنما تقوم أساساً على رضا أغلبية الشعب، ولا تغني "الشرعية" الممنوحة عبر "الصندوق" شيئاً، إذا كانت أغلبية الشعب رافضة للحاكم، وطبقاً لسليمان الهتلان: لا يمكن أن تسلمني رخصة القيادة ثم أنطلق بكل تهور حتى إذا استوقفوني صرخت فيهم: اتركوني وشأني، ألستم من أعطاني الرخصة؟! ديغول لما رأى تراجع شعبيته، لجأ إلى الاستفتاء فحصل على 51% لمصلحته لكنه استقال لأنه رآها غير كافية لإعطائه الشرعية، فكيف بحاكم استعدى الجميع؟!

 5- "الانقلاب على الشرعية": يقولون نحن ضد الانقلاب على الشرعية، ويتناسون أن الرئيس فقد شرعيته منذ إصداره "إعلاناً دستورياً" 21/11/2012 حصن قراراته وأفعاله وأحكم قبضته على الرئاسة والحكومة والتشريع، وحنث في قسمه أمام الجماهير، وتراجع عن تعهداته للقوى المدنية، وأصدر دستوراً ثيوقراطياً يقوم على تفسير المرشد الفقيه.

6- "فوبيا الجيش": تتملك البعض مخاوف كثيرة من عودة حكم العسكر المرعب، ويتناسون أن دور الجيوش الوطنية في سياق الثورات الراهنة يختلف عما سبق في الستينيات، إذ هي الضامن والحارس لعملية الانتقال الديمقراطي كما حصل في ثورتي تونس ومصر كما يقول بشير عبدالفتاح، إذ لا مخاوف اليوم من استيلاء الجيش على الحكم لأن هناك مناخاً عالمياً يمنع الجبوش من أن تلعب دوراً سياسياً، كما أن الحريات والحقوق أصبحت خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وأيضاً فإن كافة القوى المدنية المصرية تعي أخطار وصول الجيش للحكم، وتتصدى له كما يقول أكرم البني، وفي الحالة المصرية بالذات فإن التدخل جاء استجابة للإرادة الشعبية ولم يحتفظ الجيش بالحكم لحظة، بل سلمه فوراً لإدارة مدنية ملتزمة بخارطة طريق.

7- "فخ الصندوق": الديمقراطية ليست مجرد انتخابات و"الصندوق" مجرد آلية حديثة معبرة عن إرادة الشعب لكنها لا تلغيها، والتمسك بالصندوق رغماً عن رضا الأغلبية "فخ" وقع فيه هؤلاء الذين يرددون في تعنت: من جاء بالصندوق يذهب بالصندوق! في تكرار معيب لتجربة هتلر الكارثية، إذ جاء بالصندوق الانتخابي وبقي 12 عاماً لكنه كان وبالاً على وطنه والعالم أجمع، فجوهر الديمقراطية "رضا الناس" بدليل أن هناك العديد من الحكومات لم تأت عبر الصندوق لكنها تستمد شرعيتها من قبول شعوبها بها.

8- "توهم الحياد": هؤلاء الذين ينطلقون من موقع الحياد بين طرفي النزاع في المشهد المصري ويتهمون الآخرين بعدم الحيادية، إنما ينطلقون من توهم خاطئ لطرفي الصراع حين يحصرونه بين الجيش والإخوان، وهو في الحقيقة صراع بين الدولة ومؤسساتها وأغلبية شعبها من جهة وجماعة الإخوان كطرف سياسي متمرد لا يريد الاعتراف بالدولة من جهة أخرى، فالحياد –هنا- موقف غير عادل وغير مقبول لأن الطرفين ليسا سواء؛ ولأنه لا يتصور حياداً في قضية أحد طرفيها الشعب.

ختاماً: لقد كان الإخوان، فيما مضى، في صدام مستمر مع السلطات السياسية المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري، وكسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً، لكنهم اليوم في صدام دموي مع الشعب المصري بكافة أطيافه وطوائفه ومع الدولة المصرية وجيشها، وهذا أفقدهم الرصيد الشعبي الذي اكتسبوه سابقاً.

* كاتب قطري