غداة انتخابه رئيساً، وقف الرئيس المصري محمد مرسي منتشياً على منصة في ميدان التحرير ليخطب في عشرات الآلاف من أنصاره الذين احتشدوا لتحيته، فوعدهم بـ"مصر جديدة"، و"مستقبل مشرق"، لكنه لم ينس أن يغمز من قناة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر؛ فقال قولته الشهيرة آنذاك: "الستينيات وما أدراك ما الستينيات؟".

Ad

نعرف جميعاً أن العداء كان مستحكماً بين الزعيم الراحل وجماعة "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها مرسي؛ ونعرف أيضاً أن "الإخوان" سبق أن حاولوا اغتيال عبدالناصر في الخمسينيات من القرن الماضي، وهي المحاولة التي أعقبها بحل "الجماعة" ومطاردة أعضائها.

لقد طغى هذا العداء التاريخي والأيديولوجي على خطبة مرسي المذكورة، وبدا أن حالة النشوة التي كان فيها في أعقاب فوزه بمنصب الرئيس، وقبل أن يتورط في أنماط أداء عاجزة ومخزية على مدى الشهور العشرة الماضية، جعلته يرتقى هذا المرتقى الصعب، ويحاول النيل من سيرة عبدالناصر، الذي ما زال يحتفظ بمكانة كبيرة في نفوس عشرات الملايين من المصريين والعرب، وهي المكانة التي لا يبدو أن الزمان ينال منها أبداً، بل على الأرجح فإنه يزيد من بريقها ويعزز ألقها.

على أي حال، فقد فوجئنا جميعاً بما يمكن وصفه بـ"التغيير الجذري المنهجي" في سلوك مرسي وخطابه إزاء الزعيم الراحل على مدى الشهور الأربعة الأخيرة.

أشاد مرسي بجهود عبدالناصر في إنشاء حركة "عدم الانحياز" عندما حضر قمة للحركة في طهران، ثم حيا إنجازاته على صعيد العلاقات مع القارة الإفريقية حين حضر إحدى القمم الإفريقية، وأخيراً فقد تعهد بـ"السير على خطاه" حين كان يحتفل في "قصر القبة" بعيد العمال قبل أيام.

محمد مرسي "الإخواني"، الذي كان يُعرّض بـ"ستينيات ناصر" ويغمز من قناته قبل شهور، يتعهد اليوم بـ"السير على خطاه"، في ما يتعلق ببناء قاعدة صناعية وطنية ضخمة والحفاظ على حقوق العمال.

ليس هذا تحولاً أيديولوجياً طبعاً، ولا تخبطا وخواء وغياب رؤية وانعدام كفاءة فقط، ولكنه قبل كل ذلك "انتهازية سياسية" واضحة.

وجد مرسي أن رصيد ناصر يزيد يوماً بعد يوم في قلوب المصريين، خاصة البسطاء والفقراء والمهمشين بينهم، والذين عمقت سياسات "الإخوان" جراحهم وكرست فقرهم، ووجد أن المحاولات للنيل من مكانته تجلب له الانتقادات والخسائر، ورأى أن العمال الذين يستمعون إلى خطابه في عيدهم لا يطلبون سوى سياسات منصفة كتلك التي أرساها الزعيم الراحل بحقهم، فراح يكيل المديح لعدوه، وعدو جماعته، التاريخي.

إنها انتهازية واضحة ميزت أداء الرئيس، ومن ورائه جماعته، على مدى الشهور التي هيمن فيها على القرار في مصر.

فقد جاء الرئيس من خلفية معادية تماماً لإسرائيل، بل هو نفسه الذي قال في إحدى خطبه في عام 2010 قبل انتخابه رئيساً: "أرضعوا أبناءكم كراهية اليهود"، وهو أحد أعضاء الجماعة التي ترفع شعاري "وأعدوا"، و"خيبر خيبر يا يهود... جيش محمد سوف يعود"، ومع ذلك فها هو يرسل خطاباً لشمعون بيريز يصفه فيه بـ"الصديق العظيم"، ويتمنى لدولته "التقدم"، ويحرص دائماً هو وجماعته على تأكيد الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات التي تربط مصر بالدولة العبرية.

الأداء الانتهازي لمرسي وجماعته لا يقتصر على الجانب السياسي فقط، لكنه يمتد أيضاً ليشمل الجانب العقائدي؛ فـ"الإخوان" هم أصحاب شعار "الإسلام هو الحل"، وهم أنفسهم الذين صدعوا رؤوس المصريين على مدى ثمانية عقود بما أسموه "المشروع الإسلامي"، الذي يضعون في مقدمته بالطبع إلغاء ما يسمونه بـ"الفوائد الربوية"، لكنهم مع ذلك يسعون بكل طاقة ممكنة الآن وراء قرض صندوق النقد الدولي "الربوي"، بعدما استدانوا قروضاً "ربوية" من غير دولة.

يحاول مرسي أن يخدع حلفاءه الأكثر يمينية منه بالقول إن فوائد قرض الصندوق المزمع ليست سوى "مصاريف إدارية"، في ما لا يجد ما يقوله عن فوائد ودائع وقروض الدول الأخرى لمصر.

تتجسد الانتهازية السياسية في الأداء الرئاسي في مصر في إحدى صورها في ما يتعلق بعملية إصدار الدستور التي جرت في شهر ديسمبر الماضي؛ إذ تعهد مرسي سابقاً بوضوح بأنه لن يدفع بهذا الدستور إلى التصويت إلا بعد الوصول إلى توافق مجتمعي كاف عليه، لكنه مع ذلك سارع بدفع الدستور إلى عملية إقراره في غيبة التيارات السياسية المدنية كلها، بل في غيبة ممثلي الكنائس أيضاً.

تعهد مرسي بعدم إصدار قانون الانتخاب إلا بعد بناء توافق سياسي عليه، لأنه من غير المقبول أن تتم دعوة الأحزاب والقوى الوطنية إلى انتخابات وفق قانون لم تشارك في صنعه أو لا تعتقد في نزاهته وعدالته، ومع ذلك، فقد دفع بمشروع القانون إلى مرحلة الإقرار قبل بناء هذا التوافق، ورغم الاعتراضات الكبيرة والموضوعية عليه، لأنه يخدم مصلحة جماعته في سعيها للسيطرة على مقاعد البرلمان بغض النظر عن الطريقة التي تحقق لها تلك السيطرة.

أما المثال الأوضح للانتهازية السياسية لأداء مؤسسة الرئاسة فيتضح بشكل جلي في مواقف مرسي وجماعته من الموضوع السوري. فقد تعهد مرسي بعدم لقاء أي من رؤساء الدول التي تدعم نظام الرئيس بشار، لكنه قابل نجاد وبوتين، وسعى إلى إقامة علاقات واسعة مع الصين.

يسخر نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من انتهازية مرسي في الملف السوري بقولهم: "تعهد الرئيس بعدم مقابلة أي من الزعماء الذين يدعمون بشاراً، لكنه التقى نجاد وبوتين، ولم يبق سوى أن يلتقي الرئيس السوري نفسه".

في الأشهر الستة الأولى من حكمه، لم يترك مرسي فرصة واحدة يتحدث فيها في محفل عام دون أن ينتقد النظام السوري ويدعو إلى حل سريع يوقف نزيف الدماء المتدفق في سورية، لكنه في الأشهر القليلة الأخيرة توقف عن هذه الأحاديث، وراح يبحث في سبل التعاون مع إيران  للوصول إلى "حل سياسي" في سورية، كما ذهب إلى روسيا، ولم يجد ما يقوله لبوتين بخصوص بشار، محبذاً التركيز على محاولته طلب معونات أو قروض.

يتحرك مرسي كـ"بندول ساعة" في ما يخص قضايا مركزية داخلية وخارجية في السياسة المصرية، ويقول أشياء وعكسها، ويقول أشياء ويفعل عكسها، في عرض مزر لانتهازية سياسية قصيرة النفس وفاقدة الرؤية والاتزان، وهو أمر لا يليق بمصر ومكانتها، ولا يخدم مستقبلها.

* كاتب مصري