آوى إلى فراشه باكراً... القمر يطل باستحياء من خلف جبل "حَدَد"، الذي يبدو في وضح النهار لرائيه عن بعد كهرم كبير يشبه أهرامات الجيزة التي تطل على القاهرة منذ أكثر من أربعة آلاف عام، كمجموعة من الحراس الأبديين... حاول البحث عن علبة الدخان "الهيشي" وعندما لم يجدها وضع "مَذْروبه" تحت جانب فراشه وسحب اللحاف حتى غمر رأسه، وغرق في أحلام يقظة عميقة.

Ad

كان فراشه عبارة عن فرشة من صوف النعاج ولحافٍ من الصوف نفسه، وكان كالعادة يختار منطقة ما وراء السَّاحة في "شِقِّ" بيت الشعر المخصص للرجال ليكون قريباً من "أم العيال" التي آوت بدورها إلى "عرزالها" في النصف الآخر من بيت الشعر "الرَّبْعَه" في وقت مبكر من يوم طويل من العمل الشاق الروتيني الذي تقوم به في كل يوم.

تنحنح عندما أحس بحركة "أم العيال" في العرزال، الذي يقع في الجزء الآخر من بيت الشعر، والذي يفصل بينه وبين فراشه الملاصق لأرض حمراء نديَّة ساتر من شعر الماعز تتوسطه خطوط بيضاء، كخطوط حمار الوحش تسميه أجيال تلك الفترة من أواخر ثلاثينيات القرن الماضي "السَّاحة"... انتظر قليلاً وعندما لم تصله أي استجابة على "نحنحته" وضع ذراعه اليمنى تحت رأسه فوق "وسادة" غدت مع الأيام بقساوة حجر صواني وذهب في غفوة لذيذة طويلة كانت تقطعها بين فينة وأخرى نوبات سعال موجعة وحادة سببها ما حشا رئتيه به من دخان "الهيشي" في ذلك اليوم وفي كل يوم.

مضت معظم ساعات الليل وهو غارق في نوم لا تُنغِّصُه سوى نوبات السعال المتلاحقة، وقبل أول ضوء بدأ يسمع جلبة الرعاة والحصادين والرجَّادين و"اللقّاطات" الذين انطلقوا نحو مروج القمح ليبدأوا عملهم اليومي ويستغلوا فترات الصباح الباكر قبل أن ترتفع الشمس وتتعاظم الحرارة، وفجأة أحس وكأن حبلاً مشدوداً يمر فوق صفحة وجهه من الجهة اليسرى، وصل رأس الحبل المشدود الناعم الملمس إلى ما بين حاجبيه، رفع يده اليسرى بصورة تلقائية وبحركة كسولة، بينما كان لا يزال ذراعه اليمنى تحت خده الأيمن فوق الوسادة التي غدت بصلابة وقسوة الصَّخرة الصوانية، وعندما وصلت أصابعه إلى الحبل المشدود الناعم الملمس حاول إزاحته عن جبهته بشيء من العنف والقوة، وفجأة أحس بأن رصاصة اخترقت رأسه من الأمام وخرجت من "عنقوره" من الخلف.

انتفض واقفاً وهو يطلق صرخة مدوية أفزعت "أم العيال"، وتحلق الجميع حوله بعد أن سقط على فراشه، الذي كان لا يزال ساخناً، وهو يتأوه ويتوجع ويحاول عصر جلد جبهته بأصابع يده اليمنى ويطلق بين لحظة وأخرى صرخة مفزعة قوية، كان يرد عليها الأطفال وأمهم بصرخات رعب دفعت بعض أهل القرية دفعاً إلى التوجه ركضاً إلى منطقة "الكَرْم" حيث كان بيت شعر الملدوغ مسرحاً لما جرى في ذلك الصباح المبكر من ذلك اليوم من أيام "الحصيدة".

تجمع الناس، الرجال والنساء والأطفال، وأحاطوا بفراش الرجل "الملدوغ" فسادت لحظات من الفوضى العارمة وتكاثرت الاقتراحات الصاخبة واختلط الحابل بالنابل... ولأن الأكبر سناً ومقاماً من بين الرجال أمر بذلك فقد تعالت أصوات قدور النحاس وأصوات أجراسٍ سارع البعض بفكها من رقاب "الكباش" وإحضارها إلى مسرح الأحداث... وكل ذلك بقصد الإبقاء على المصاب مستيقظاً، لأن أي غفوة بحسب "الخبراء" ستكون بمثابة الموت الزؤام المؤكد.

تردت حالة المصاب رغم محاولة إيقاظه المستمرة، فتشاور رجال القوم واستقر قرارهم، بعد أن بدأت الشمس ترتفع في كبد السماء متجهة نحو منتصف النهار، على ضرورة تحميله على بعير ونقله مصحوباً بجوقة قارعي قدور النحاس ومجلجلي الأجراس إلى جرش التي هي أقرب مدينة إلى القرية والتي فيها طبيب يعالج كل الأمراض فيبرأ من يبرأ ويودع الحياة الدنيا من لم يكتب الله له العمر الطويل.

وصلت المسيرة إلى "مرج سيَّاف" وأصبحت جرش على مسافة "مقرط العصا"، ومسافة مقرط العصا عند البدو تصل إلى عشرة كيلومترات، ازدادت حالة "الملدوغ" تردياً ولأنه مُنع من أن يتناول ولو جرعة ماء واحدة منذ أن لدغته الأفعى قبل أكثر من أربع ساعات خوفاً من انتشار السم في جسده فقد اشتد عليه الظمأ.. وأخذ يستعطف، بباقي ما تبقى عنده من صوت، أن يحصل ولو على قطرة واحدة، لم يستمع إليه أحد، اشتدت وطأة السم عليه فأخذ صدره يرتفع ويهبط، وازداد رأسه تدلياً حتى أصبح بمحاذاة أسفل سنام الجمل الذي كان يئن بدوره وعيناه تطفحان بالدموع.

انتهى الأمر، وأُنيخ البعير في ظل شجرة بلوط كبيرة، هجم الأطفال على أبيهم وهم يصرخون برعب يمزق نياط القلب، وبكت أمهم بكاءً مراً، وتشاور وجهاء المسيرة المحزنة وقرروا ضرورة العودة به والإسراع في دفنه ومواراة جسده الثرى قبل أن يُفسِّخه السم و"تفوح" منه رائحة الموت.. لقد كان ذلك اليوم طويلاً.. وبعد مراسم الدفن البسيطة عاد الأطفال ومعهم أمهم إلى بيت شعر لن يروا فيه بعد الآن والدهم الذي كان يملأه حباً وحناناً وحيوية.

وفي المساء، وقف أحد أصحاب الخيال الواسع وسط جَمعْ المعزين أمام بيت الشعر المضروبة أطنابه في منطقة الكرم، وقال بطريقة خطابية :"لقد نصحته رحمه الله، لقد قلت له ألا يحاول الوصول إلى الكنز الذي كان بحراسة حية رقطاء طولها نحو أربعة أشبار ورأسها بحجم رأس القط، لم يستمع رحمه الله إلى تحذيراتي ونصائحي فدفع ثمن عناده وكانت النتيجة هي هذه النتيجة، الله يرحمه لقد كان عنيداً"!... ابتسم بعض الحضور رغم أجواء الحزن المخيمة، ولأن "أبو النصائح" حاول الاستطراد والحديث مجدداً عن الكنز الذي تحرسه الأفعى المرقطة التي لها في رأسها قرنان بارزان قال له رجل مسن حزين بلا تظاهر أو افتعال: "يخرب بيتك ما أكذبك... الله يلعنك ويلعن حياياك... ويلعن نصايحك... اسكت بلا كذب"!