شارع ذو اتجاه واحد لفالتر بنيامين... لا شعر ولا فلسفة
خلال مدة قصيرة، صدرت ترجمتان لكتاب {شارع ذو اتجاه واحد} للفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، الأولى بتوقيع أحمد حسان عن دار {أزمة} في الأردن وعن دار {ميريت} في مصر، والثانية بتوقيع ناجي العونلي عن دار {شرق وغرب} في بيروت.
الاندفاع إلى ترجمة الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين إلى العربية حصل في السنوات الأخيرة، إذ تأخر اكتشافه على رغم أن الأديولوجيات العربية كانت تبحث عن المنظرين كلهم في العالم، لكن مثل هذا الفيلسوف الذي كان نقدياً وصاحب مواقف خاصة أدبية وفلسفية تتعلق بالحياة والناس والمجتمع والدراما، اقتصر الاهتمام به على بعض النخبة، من بينهم وضاح شرارة الذي كتب حول كتابه {نشأة التراجيديا الألمانية}، فضلاً عن مجلة {قضايا وشهادات} التي ترجمت له {العمل الفني في عصر استنساخه التقني}. وسرعان ما كرّت السبحة، فقرأ الناقد فيصل دراج عمله {شارل بودلير... شاعر غنائي في حقبة الرأسمالية العليا}، وترجم له بعض الدراسات والمقالات ومقتطفات من سيرته. والحماسة لترجمته إلى العربية ترافقت مع إعادة اكتشاف أن أفكار هذا الفيلسوف التي قالها قبل الحرب العالمية الثانية ما زالت تعبّر عن المرحلة الراهنة، خصوصاً نظريته {العمل الفني في عصر استنساخه التقني} التي تعبر عن واقع الفنون والثقافات في زمن المعلوماتية والفوتوشوب وضياع الهالة.
يكشف كتاب {شارع ذو اتجاه واحد} نظرية بنيامين عن اللغة، التي يصفها الناقد راينير روشليتز بأنّها مثاليّة البنية وغيبيّة الاستلهام ورومانسية المصدر. وهي إلى جانب كونها وسيلةً للتعبير تتمتّع بـ}القدرة على كشف جوهر الإنسان... فكلمة الشاعر ونثر الكاتب اللذان يسمّيان الأشياء في حقيقتها، هما إذاً الشكل الأصيل للغة}.صدر الكتاب عام 1928، قدّم فيه المؤلف انعكاساً لرغبته في العيش من دون انخراط أعمى في النظم القائمة للتصوّرات والأمور. لا يثور ولا يرضخ، بل {يتسكّع} بين تفاصيل حياة يومية عادية، ويخرج منها إلى ما هو أبعد من أشكالها الواضحة: المأكل، أثاث البيت، الساعة اليدوية، محطة البنزين، وغيرها من عناوين مفتوحة على خصوصيات وحميميات سجالية. تعكس العناوين في كتاب بنيامين بناء الحياة المعاصرة نفسها في ظاهراتها المنتافرة كلياً لكأن الكتابة عند بينامين صارت من زمان العدسة الحية للتصوير الفوتوغرافي التي تكتفي بالتقاط مشاهد عارية من دون تأويل ولا تنديد ولا {شكوى}.بازار فلسفي يكتب فالتر بنيامين من منظور نقدي خاص يجعله من زمرة أولئك الذين يعسر تصنيفهم أو مقارنتهم بغيرهم. والسؤال الذي يشتغل عليه المترجم في التقديم هو محاولة تفهّم هذا الطابع الاستثنائي لكتابة بنيامين في نص {شارع ذو اتجاه واحد}، لماذا ليست هي {لا بفلسفة ولا بشعر}، في ماذا يكمن عدم قابليتها للتصنيف مع أنها تندرج في الظاهر ضمن سياق فكر النظرية النقدية؟في كتاب «شارع ذو اتجاه واحد» يشتغل بنيامين على كوكبة مركبة من المسائل تعود إلى مسألتين رئيستين، هما مسألة الكتابة (بما هي كتابة الأنا وأحلامها وكتابها في المجتمع بمسوخاته وانحرافاته) ومسألة الخطاب الإشهاري وما يقتضيه من تشخيص نقدي مدقق لمدينة الراهن بشوارعها وموانئها وحاناتها، وواجهاتها. ولكنه في هذه المسألة وتلك إنما يفتتح، كما يقول بلوخ، «بازاراً فلسفيا» يؤثثه بجملة عناوين يمكن صوغها عن صناعة عنونة قلما نجد لها نظيراً.تصف الألمانية حنا آرنت بنيامين بأنه المفكر الذي {لم يتعلم السباحة مع التيار ولا السباحة ضد التيار}، وهي في ذلك على حق بحسب النقاد شريطة أن نفهم من ذلك بنيامين في كتابته {المتشذرة}، يريد أن يحيا في العالم من دون دعوى الانقلاب عليه ومن دون الانخراط الأعمى في النظام القائم للتصورات والأمور: فما هو بالثائر ولا بالراضخ. إنه بالأحرى صعلوك يتسكع بين ثنايا الظواهر والأشياء ويتعقب أدق دقائقها، لا شيء يذهله في ذلك كله أكثر من أنها تظهر وتتبدّى حتى في غياب من يرى ويسمع.فالتر بنيامين (1892-1940) أحد أهم المفكرين ونقاد الأدب الألمان في القرن العشرين، تميز بفرادة تأملاته حول اللغة والأدب والفن والتاريخ. درس الفلسفة في جامعات فرايبورغ وبرلين وميونيخ وبرن، وعاش في برلين ككاتب ومترجم، إلى أن قرر في عام 1933 ومع صعود النازيين إلى الحكم الهجرة إلى فرنسا. انتحر في 27 سبتمبر عام 1940 في بورت بو على الحدود الفرنسية الإسبانية خوفاً من اعتقاله على يد قوات النازيين.من بين أشهر مؤلفاته {العمل الفني في عصر استنساخه التقني}، و}مهمة المترجم} و {باريس عاصمة القرن التاسع عشر} و}صورة بروست} و}حول مفهوم التاريخ}، و«شارع ذو اتجاه واحد}. كذلك شارك فرانز هيسل بترجمة {البحث عن الزمن المفقود} لمارسيل بروست.