إن كان ثمة معجزة للمدرسة فلعلها تكمن في أنها تعلّم القراءة والكتابة. وهل هناك أروع من قدرة الإنسان على تعلّم الأبجدية؟ ليست أبجدية الحروف قطعاً، وإنما ما تقود إليه تلك الشيفرة السحرية من إبحار سخيّ في عالم من القراءات والمشاهد والأصداء، ثم ما تُنمّيه لاحقاً من قدرة على الإفاضة من معين لا تدري من أين يفاجئك برذاذه وغواياته!

Ad

هل كان صدفة أن يهديني المنفلوطي «نظراته» و«عبراته» وأنا في الثانية عشرة من العمر، ليضيء لي شمعة من شموع البهجة واللوعة؟ كيف تقمصني هذا المنفلوطي وجعلني أنشد مقطوعته «الرحمة» في الصف الثاني المتوسط وأستظهرها بكل ذلك التوهجّ والولع ؟! ثم كيف أخذ بيدي وئيداً نحو عذوبة الحزن ولذة الشكوى وبؤس الحياة، وصفاقة المقادير وضعف الإنسان.

وقبلها أخذني نحو شعرية النثر وموسيقى التعبير ودبيب المشاعر وطراوتها. لم تكن مقطوعة «الرحمة» سوى درس من دروس «المحفوظات» كما كان يُسمّى في عهدنا، ولكنه درس قادني إلى اكتشاف المنفلوطي الأكثر سخاءً وانثيالاً من تلك المقطوعة المبتسرة.

والغريب في الأمر أن «النظرات» بأجزائها الثلاثة كانت تربض في خزانة أبي مع غيرها من كتب لم أكن أحسن فكّ أبجديتها حينها، كدواوين التراث والكتب التاريخية والمجلات الشهرية. ولعل للفضول دوراً في تلك المصادفة التي رأيتُني فيها ألامس تلك الأجزاء الثلاثة من «النظرات»، ثم «العبرات»، ثم أقاصيصه الرومانسية المترجمة مثل «بول وفرجيني» التي أسماها «الفضيلة».

لا أزال أذكر أغلفة هذه الأجزاء بطبعاتها المتواضعة وقد تربعت صورة المنفلوطي بالحجم الصغير على غلافها، متشحاً زيّه الأزهري وشاربيه المعقوفين. لم يكن ثمة ارتباط في ذهني بين تلك الصورة الرصينة المجللة بتقليدية ظاهرة، وبين تلك الروح المنسرحة بالرومانسية والرقة وطلاوة الأسلوب ونداوته! ولعل المنفلوطي كان يقصد إلى تلك المفارقة ويتعمدها ليثير هذا التساؤل المشروع!

وتأتي ميّ زيادة بعد المنفلوطي لتسكن حشاشتي! وتأتي معها نكهة الحسّ الأنثوي وعذوبته ولوعاته. حضورها في الفكرة والجملة والمفردة كان حضوراً طاغياً للأنثى الواثقة المتأبية، واثقة من صوتها وملامح وجهها وجدّتها الطارئة، ومتأبية في المواقف والأهواء والعواطف.

ولعل ما زاد تألقها في نفسي أمرين: الأول قصة الحب بينها وبين جبران، وهي تكاد تكون قصة كل الفتيات الطليعيات الحالمات بالإنسان – النموذج الذي يخلقه الوهم ويغلفه الغموض، ويظل مستعصياً على الحضور والتحقق رغم كل التباشير.

أما الأمر الآخر الذي لفتني إلى عالم ميّ زيادة فهو ما انتهت إليه رحلتها الإبداعية والحياتية من انكسار وخيبة، ومن سقوط مروّع للكمال والجمال والعقل. بيد أن ميّ زيادة ظلت بزخمها الحياتي العابق بالصراع والمأساوية نابضة في وجداني حتى الآن، وممثلة للنموذج الإبداعي النسوي في قمة معاناته للمأزق الثقافي والحضاري في مجتمعاتنا الشرقية.

وتكتمل صورة ميّ ذات النَفَس العابق بالروحانية والمثالية وبراءة الوجدان الأولى، بصورة جبران وميخائيل نعيمة والتهاويم المهجرية، وبسحر الرؤيا في كتب «الموسيقى» و«الأجنحة المتكسرة» و«النبي و«العواصف»، ونصوص «كالنهر المتجمّد» و«أوراق الخريف» و«التائه» و«مرداد». وبعدهم يطلّ الشابي بعذوبة «صلواته» و«صباحه الجديد» وغابه وطفولته، وانتحابه الرائع أمام الطبيعة والحب والموت.

ولعل هذا العالم السادر في عذوبته وتأوّهه أمام الجمال والألم بدأ يحفر روافده في وعيي الأول ويجد له بذوراً يسقيها ويطعمها. فلا غرو أن يأتي النص الأول في مرحلة الثانوية مضمخاً بالشكوى متبرماً بالحياة باحثاً عن وجهها الآخر المفقود. ويقيني أن ذلك لم يكن «ذنب» جبران ونعيمة والشابي، بقدر ما هو استعداد نفسي أصيل، وميل إلى معاينة خلل الحياة ونقصها، وتعبير النفس عن ما يرين عليها من هشاشة وتهافت وعريّ.