قبل أن تقرأ السطور التالية: تذكر جيداً، أن الوقائع مسجلة في محاضر الشرطة وتحقيقات النيابة. وأن بطل الوقائع زائر من عالم آخر. عالم القوى الخفية... مارد أبيض يختطف طفلاً في محافظة الغربية كل ليلة، وأحياناً كل بضعة ليال، ثم يعيده قرب الصباح! عندما وقع هذا الحادث للمرة الأولى لم يصدق الأهالي والجيران حول بيت عم طارق أن جارهم يروي واقعاً ملموساً. ذهبوا معه ودخلوا بيته وفتشوه شبراً، شبراً... ثم نظر بعضهم لبعض وهم يتساءلون بصوت مرتفع:

Ad

* معقول...؟!

روى لهم عم طارق كيف اختفى ابنه الصغير أحمد من حجرته. كيف رفض مأمور مركز زفتى أن يحرر له محضراً بالواقعة. وأمام بكاء الأب وانهيار الأم، واختفاء الابن فعلاً وفقاً لتأكيدات شقيقه الأكبر محمد تجمع العشرات من الجيران وذهبوا مع عم طارق إلى مأمور المركز الذي رفض أن يحرر محضراً ضد عفريت، وأن يسجل أقوال الأخ الأكبر محمد شاهد عيان الواقعة. كان المأمور يضرب كفاً بكف محاولاً إقناع الحشد من الناس بأن القانون يرفض الاعتراف بالقوى الخفية. إلا أن الأهالي هددوا بقطع الطريق ما لم تساعدهم الشرطة في هذه الأزمة، فلا أحد يعرف ماذا سيحدث في الساعات المقبلة. أخيراً رضخ مأمور المركز وحرر المحضر وهو يردد:

* وأنا مالي... النيابة هي اللي تتصرف!

لكن ومن باب الاحتياط ظل المأمور يتابع عن قرب توالي الأحداث في بيت عم طارق. وتوالت المفاجآت.

أصل الحكاية

عم طارق رجل عصامي. نشأ فقيراً في أسرة محدودة الدخل في مدينة زفتى الواقعة على ضفاف النيل. استطاع أن يعمل بجهد منذ شبابه المبكر ويدخر كل جنيه يكسبه حتى ارتفع بالبيت الصغير الذي ورثه عن أبويه طابقاً آخر ليصبح البيت مكوناً من ثلاثة طوابق... تزوج جارته التي يحبها من الطفولة، وأنجبت له ابنهما الأول محمد، ثم لم يكتمل العام الثالث على الولادة حتى أنجبت ابنهما الثاني أحمد. ومنذ ولادة أحمد والدنيا غير الدنيا داخل بيت عم طارق. الطفل الصغير شديد التعلق بأمه، لا تجده إلا حيث تكون هي. إذا دخلت المطبخ أو الحمام تعلق بجلبابها. وكانت هي أيضاً لا تطيق البعاد عنه. حاول الأب أن ينبه زوجته إلى أن هذا الأسلوب في التربية خطأ، لكنها ردت عليه بكلمات غريبة:

* أنا حاسة أن الولد هيضيع مني في أي لحظة؟

** إيه الكلام الفاضي ده يا أم محمد؟!

* أرجوك صدقني. هقولك سر أول مرة أنطق بيه. كتير لما أكون وحدي أسمع صوت في وداني بيقولي إن أحمد ابنهم وليس ابني وحدي... وسوف نأخذه منك!!

ضحك الأب حتى أدمعت عيناه، أقنع زوجته أن ما تحكيه هواجس بسبب حبها الجنوني لأحمد، وأنها لو استسلمت لهذه الحكايات ستصاب بمرض نفسي، أو عقلي! اهتزت الأم... لم تفهم معنى كلمة «هواجس»، لكنها فهمت أن الأمر خطير، وعليها أن تطيع زوجها كما اعتادت. صمتت وأوت إلى فراشها. لكن ما إن بلغ أحمد عامه السادس من عمره وألحقه أبواه بالمدرسة الابتدائية حتى ظهرت المشكلة الثانية: الطفل يرفض الذهاب إلى المدرسة إلا بصحبة أمه! غضب الأب ورفض هذا الدلع. قرر أن يذهب هو بنفسه مع صغيره حتى باب المدرسة، وعاند الصغير وبكى. صفعة والده... لكن الأب شعر أنه لا يستطيع تحريك يده بعد الصفعة على رغم أنها لم تكن بالقوة التي يمكن أن تنتج هذا الأثر. لاحظ الأب أن هذه ليست المرة الأولى، وأن الطفل في داخله أموراً يعجز عن تفسيرها. انزوى عم طارق في الحجرة، أسرع إليه صغيره يطبع قبلة فوق ذراع الأب، فتحرك الذراع! سكت عم طارق وترك الأم تصطحب صغيرها إلى المدرسة. وظل الأب ساكتاً فهو لا يريد أن يتحدث في ما يشعر به تجاه الطفل كي لا يفتح على نفسه أبواباً ربما يعجز عن سدها، خصوصاً أن صغيره كان يركن إلى إحدى زوايا البيت وتصدر عنه أصوات لا يفهمها الأب... تكرر هذا مرات ومرات!

... وفي المدرسة صار المشهد مألوفاً، بعدما دخل أحمد إلى الفصل كانت تنتظره أمه في فناء المدرسة... وأثناء الفسحة تجلس إلى جواره تطعمه من السندويتشات التي جهزتها له. كان التلميذ الوحيد الذي يتمتع بهذه الميزة بإذن خاص من ناظر المدرسة تقديراً لدموع الأم. لكن حينما بلغ أحمد عامه التاسع تطور الأمر... وبدأت أولى المفاجآت!

مارد أبيض

ذات ليلة... وبعد انتصاف الليل عاد عم طارق من عمله مرهقاً، لكنه لاحظ أن أسرته قد غلبها النوم مبكراً كالعادة. النوافذ مظلمة في الطابق الثالث حيث يسكن، بينما تقيم إحدى شقيقاته في الطابق الأول، وشقيقة أخرى في الطابق الثاني. المهم أنه دخل شقته وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، ثم المزلاج الحديدي. وكعادته دخل حجرة محمد وأحمد وطبع قبلة فوق وجه كل منهما، ثم اتجه إلى حجرته حيث تنام زوجته المريضة. لم يشأ أن يقلقها ولم يطلب منها أن تعد له العشاء، خلع ملابسه وتهيأ للنوم. لكن صوت حركة تسرب إلى أذنيه. فتح باب حجرته، النور مضاء في حجرة الأولاد. اتجه إلى الحجرة ففوجئ بابنه محمد يقف مذعوراً، يحاول أن يصرخ فلا يجد صوته، سأله أبوه في لهفة:

* مالك يا محمد؟!

** أخويا أحمد. ناداني وأنا نائم... طلب أن أحضر له كوب ماء من الثلاجة. خرجت للصالة... ولما رجعت شايل كوب الماء شفت «شبح أبيض» شايل أخويا أحمد ونزل به تحت الأرض.

 

سيطر الذهول على الأب... زوجته هبت من فراشها. وما إن سمعت من محمد حكايته حتى أغشي عليها. أسرع عم طارق كالمجنون يبحث عن ابنه في كل أرجاء الشقة، لكن لا أثر للصغير. باب الشقة مغلق كما هو بالمفتاح والمزلاج. وباب المنزل مغلق في الدور الأول بالجنزير. صرخا الأب والآم وهما يخرجان إلى الشارع في اتجاه مركز الشرطة. ربما في الطابق جريمة على رغم الأبواب المغلقة، لكن المأمور رفض البلاغ بالصيغة التي يرويها الأب مستشهداً بما رآه ابنه محمد... استيقظ الجيران بعدما عاد الأب وقد زاده المأمور ألماً بسخريته منه، تعاطف الناس مع الأبوين المنهارين تماماً... واتجه حشد منهم إلى مأمور المركز وضغطوا عليه وحملوه مسؤولية ما حدث إذا ظهر أن في الأمر جريمة... وبعدما حرر المأمور المحضر عاد الأهالي وأحاطوا بالأب والأم وافترشوا مدخل البيت... فجأة نظر كبير العائلات في المنطقة في ساعته ثم قال للموجودين:

* خلاص الفجر بعد ساعة. يبقى نتوضأ كلنا ونقرأ القرآن ولما نسمع آذان الفجر نصلي جماعة... ونفوض أمرنا لله.

لم يكن أمام الجميع سوى الاستجابة. توضؤوا... قرأوا القرآن، ثم صلوا جماعة صلاة الفجر. وفجأة... سمع الجميع صوت ارتطام قوى.. هرولوا نحو مصدر الصوت، هناك في نهاية البدروم حيث دورة المياه. اكتشف الأب وجود طبق كبير لم يكن موجوداً سابقاً. رفع الطبق بمساعدة بعض جيرانه ليكتشفوا أن أحمد ممدد تحت الطبق. صاح العشرات: الله أكبر... الله أكبر... واحتضن عم طارق صغيره وهو في حالة ذهول... الولد لا يزال نائماً. لكن فوق جبهته ورم صغير في حجم الليمونة.

راح الناس يضربون كفا بكف... أين كان الصغير؟ وكيف عاد؟! الخوف تسرب إلى كثيرين. حمل الأب ابنه إلى الطابق الثالث ودخل به إلى حجرته... حاول أن يوقظه. يفتح الطفل عينيه بصعوبة، ظل صامتاً بعض الوقت. كل الوجوه تنظر إليه... الأعناق مشرئبة... الأنفاس محبوسة.. والجميع يرتلون آيات القرآن بصوت هادئ. أخيراً بدأ أحمد يتكلم وهو ينظر إلى جيرانه متعجباً:

* الناس دول كلهم في بيتنا ليه.. يابابا؟!

** هو أنت كنت فين... يا حبيبي؟!

** أنا كنت نايم يا بابا... ما رحتش أي حتة!!

أدمعت عينا الأب ولاحظ أن الورم فوق جبين ابنه قد اختفى. يتعالى صوت الجيران من جديد بالتهليل والتكبير!

قرار النيابة

ظل الجيران مع الأب حتى أشرق نور الصباح ونشرت الشمس خيوطها الذهبية فوق أرجاء المدينة. استدعى المأمور الأب ليستكمل محضره بعد ظهور الابن الغائب، ورد الأب على المأمور بأن أحد كبار المعالجين الروحانيين حضر إليه مع أول الصباح وأخبره أن لابنه قريناً يخطفه كل ليلة ليلعب معه ثم يعيده مع الفجر. وأن هذا الأمر سيتكرر! ينهض المأمور من مكانه وصرخ في الأب واتهمه بالجهل... وطرده من مكتبه لإصراره على ما يقول.

تكرر الأمر بالسيناريو نفسه ليلة بعد ليلة، مع اختلافات في التفاصيل... فالجيران اعتادوا الموقف، ولا أحد يغادر بيته ليتعاطف مع الأبوين... فضلاً عن أن أسرة أحمد اعتادت أن تنتظره في الممر الذي ينتهي إلى دورة المياه.

أصرَّ الأب على الذهاب إلى المأمور الذي بدأ يفكر في طلب نقله بسبب ما يحدثه له الأب من إزعاج يومي... كان عم طارق يرى أن على الحكومة أن تجد له حلاً وبأي شكل، خوفاً من أن يغيب ابنه ذات ليلة ولا يعود. أخيراًَ اضطر المأمور إلى إرسال المحضر إلى النيابة التي استدعت الأب والجيران فتوافد العشرات من المواطنين على المحقق ليشهدوا باختفاء أحمد كل ليلة على يد مارد أبيض. ولم يجد وكيل النيابة سوى أن يؤشر على المحضر بالحفظ... وسجل اختطاف الطفل بشهادة جيرانه ضد مجهول.

الغريب أن الطفل في المحضر رفض أن يرد على أسئلة وكيل النيابة... وهمس لأبيه بأنه لا يستطيع أن يخبر أي مخلوق أين يذهب... ومع من... وكيف يعود، لأنه إذا تكلم فلن يسمحوا له بالعودة.

لا يزال المحضر في أدراج وكيل نيابة زفتى... ولا يزال الطفل يختفي ليلاً... ويعود فجراً

المربوط

واقعة أخرى في غاية الغرابة. وصلت هذه المرة إلى محكمة الجنايات... وترافع فيها المحامي الشهير بهاء الدين أبو شقة. وللمرة الأولى في القضاء المصري يضطر المستشارون إلى الاستماع إلى وقائع من هذا النوع الغريب. تعالوا قبل أن نتعرف إلى الحكم الصادر في هذه القضية نتعرف إلى تفاصيلها.

عزمي وعنتر رجلان من أهالي قرية صغيرة في محافظة الدقهلية... كلاهما كان يعرف الآخر شكلاً واسما فحسب. عزمي كان محبوباً من أهل القرية وودوداً معهم... وعنتر كان يعيش داخل عشة خشبية على حدود القرية. لا أحد يعرف له مهنة سوى ما يدعيه من أعمال الدجل والشعوذة... ولهذا لم يختلط به أحد إلا مضطراً.

تزوج عزمي من ابنة عمه التي يحبها بجنون... ورقص أبناء القرية في حفلة زفافه وسهروا حتى الصباح. لكن عزمي عاش أسود سنوات عمره منذ ليلة زفافه حينما اكتشف أنه رجل بلا قدرة على معاشرة زوجته. حاول كثيراً وحاولت معه زوجته، لكن بلا جدوى. صبرت زوجته وقررت أن تحافظ على سر زوجها فهي تبادله الحب الجنوني وتأبى أن تسبب له إحراجاً. كانت توجعها أسئلة أمها المتكررة عن الحمل. وكانت تحبس دموعها ولا ترد. عرض عليها عزمي أن يطلقها كي لا تتعذب معه، لكنها رفضت بإصرار! ذهب سراً إلى عنتر عملاً بنصيحة أحد أصدقائه... لكن عنتر أجابه بكل ثقة أن علاجه مستحيل. استسلم عزمي للأمر الواقع... مر عام بعد عام... وبعد 11 عاماً من الزواج فوجئ عزمي وهو يسير في الطريق بعنتر يجري نحوه ويدعوه لدخول عشته الخشبية لأمر مهم. داخل العشة راح عنتر يفجر المفاجأة الكبرى:

* أريد أن أصارحك بسر يا أخ عزمي أن الشيطان كان ضاحكا عليّ. كنت أشتغل بالأعمال السفلية. وبصراحة كنت أحب فريال زوجتك قبل أن تتقدم إليها. وكنت أعرف أن أهلها سيرفضونني. ودفعني الحقد عليك أن أربطك طوال هذه السنوات كي لا تقترب منها، لكني الآن اعتزلت وتبت وأحاول أن أحصل من كل الذين ظلمتهم على العفو. أرجوك أن تسامحني وسأطلب من كثيرين غيرك أن يسامحوني. ومن الليلة يمكنك أن تكون زوجاً مكتملا الرجولة.

عاد عزمي إلى بيته وهو يتخيل أن عنتر كان يسخر منه... اقترب من زوجته، نظرت إليه في خجل وابتسمت، لكنها لم تحرجه أكثر من ذلك... عانقها عزمي، وفوجئت الزوجة بعد لحظات بأنها تعيش ليلة الدخلة للمرة الأولى بعد 11 عاماً. لم تنته ليلة الحب إلا وكان عزمي قد اتجه إلى عشة عنتر يمسك خناقة ويشبعه ضرباً... وبصعوبة شديدة أنقذ الأهالي عنتر من موت محقق. وبسرعة البرق أصبح الخبر فوق كل لسان بعدما أذاع عزمي السر الرهيب.

بعد ثلاثة أيام تم العثور على جثة عنتر أمام عشته، وألقت الشرطة القبض على عزمي بعد إجراء التحريات والاستماع إلى الشهود... وأحالته النيابة إلى الجنايات. ترافع عنه بهاء الدين أبو شقة فأثبت للمحكمة عدم وجود أي دليل مادي يدين عزمي بقتل عنتر سوى أقوال مرسلة. ثم استشهد بعدد من أبناء القرية الذين اعترفوا بأن عنتر طلب منهم السماح على مصائب ارتكبها في حق كل منهم. بالتالي، فإن ما ينطبق على عزمي ينطبق على الآخرين مما يجعل الاتهام شائعاً والجاني مجهولاً.

قضت المحكمة ببراءة عزمي، وحثت النيابة على فتح التحقيق مجدداً لمعرفة قاتل عنتر. تمر سنوات من دون الوصول إلى الجاني وتقيد النيابة واقعة قتل عنتر ضد مجهول... بينما كان عزمي يحتفل بمولوده الأول.