على رغم حيرة القارئ في إسناد الضمائر، في القصيدة الأولى من «تكابد لبلابها والأسماء لا تكفي لعصفورين» بعنوان «الناسك»، تبدو لعبة المرأة والرّجل على نار حامية، وتعبق اللغة برحيق أنوثة ورجولة مشتاقتين إلى سرير البوح بموازاة سرير يحتضن بوح الجسد: «أعجنكِ بالمداد/ أهيّئك لصباح سعيد/... العناكب فوق السرير الذي/ لم تفضّ بكارته كفُّ أنثى». فناسِكُ قاري لم يذق هواء ولا حريرًا... إنّه الرجل المتنسّك في كهف الشوق، المادُّ عمره على بساط الحكايات الناقصة، التي لا يمسك بأيديها ويوصلها إلى آخر المعنى إلاّ المرأة الساكنة المجيء الدائم رغم أنّها لا تأتي.
وليس ما يعيشه الناسك بعيدًا ممّا تعيشه الشاعرة لطيفة قاري، ولعلّه وجه آخر لها، فهي ذات جسد يتنازل عن عناوينه مثلما تتنازل الحقيقة عن سلامة جناحها لتبقى حقيقة: «يخلع جسدي عناوينه/ يتكسّر مثل جناح الحقيقة»، وهي حين يجتاحها طيف الرّجل تناديه ليسكن ثيابها ويرتقي بها إلى فرح لا تعرفه: «فكنْ في خماري/ وكن سلّمي للنجوم التي لا أراها/ وضمِّخْ سواري». وتكمل قاري استسلامها لأناشيد الجسد وتلتقط بأصابعها جمرة الرغبة، جمرة السنديان العتيدة، الجمرة التي يرجمها الشرق باللعنة... وتلجأ إلى رمزيّة شفّافة وهي واقفة عند باب الجسد الموجوع بالحبّ: «انفلتتْ عروة في القميص/ فأسبلت عيني/... ها خوختان ترفّان في رسن/ ها النار تشعل وردتها في دمي/... ها جنّة من زبد/ والمؤمنون شهود النجوم التي انطفأت/ في غبار الجسد». ومن مثل الشاعرة يعرف أن ليس اللقاء تحت قنطرة الحبّ يخلّص الجسد من غباره المتحوّل أكفان نجوم ليس لها أن تولَد ساعة تشاء وما من رجل يستطيع ساعة يشاء أن يبعثها حيّة.زهر فستانهاوتأتي قصيدة «شاعرة» لوحة لغويّة تجسّد المرأة والانتظار متداخلَين في البيت- السجن، البيت الذي حين يطلع العطر من زهر فستانها «يحضن خطوتها في ابتهال»، بينما هي شأن كلّ النساء الشرقيات تحمل همّ جسدها على كتفها طائرًا جريحًا، وتعانق وهمًا ليته يتجسّد رجلاً ويعالج سياج حديقة الجسد التي تعاني ربيعًا بلا زائر: «مثل كلّ البنات/ تضيء جديلتها/ يتقطّر عنّابها/ وترنّ خلاخيل أضلاعها/ كلّما اشتبكت في عناق حميم». ولأنّها الشاعرة، تهرب إلى اللغة، تطفئ نارها بماء الكلام، ليغدو الورق صندوق جواهرها الحميم: «مثل بعض البنات/ تخبّئ أوجاعها عن عيون المرايا/ وتدفن لوعتها في كتاب/ وترمي لآلئها للورق».أمّا في قصيدة «سفر» فتروي الشاعرة بضمير الـ»أنا» مقنَّعة بصفة الـ»مذكّر»: «إنّي وحيد وهنا يا إلهي»، غير أنّ هذا الـ»مذكّر» يتبنّى حكاية المؤنّث بكلّ وجعها ولا ينقصه سوى أن يمدّ يده إلى تاء التأنيث ويرتديها وجهًا، وتأتي نهاية القصيدة لتعلن أنثى لطيفة قاري المكابدة أنوثتها على امتداد القصائد: «ما فؤادي الذي يتقلّب/ كامرأة في السرير/ تكابد لبلابها/ ما أنا يا إلهي». وما أكثر المحطّات، عند قاري، التي تظهر المرأة معانية فيض جسدها وخيرَه في حين أنّ الرّجل سجين غيابه الدائم.وتجتاز الشاعرة لطيفة قاري همّ الرجل والمرأة وما بينهما من توق الروح وأحلام الجسد إلى همّ الجماعة التي تتعثّر في صناعة أقمار تليق بتاريخها، لاسيّما في المجموعة الثانية «الأسماء لا تكفي لعصفورين». ففي قصيدة «فاتحة» يحضر «الشيخ» كأنّه ضمير الماضي الذي لا ينال من صوته غبار الأيّام، وإذا أسلمت خيوط عمامته الروح فإنّ يده لا تزال تحرث البحر بمجذاف لا يخطئ في الرحلة إلى الشاطئ المقصود: «يقوم الشيخ/ تلك عمامتي اهترأت/ وما ألقيت مجذافي/ وما أسلمتُ للأمواج أنفاسي»... وفي قصيدة «صديقي الذي» تواصل قاري العزف على وتر يطال بنغمه جميع الذين يعرفون أنّ وصايا الأنبياء أمست في ثلاّجة الوجود ولم يعد زبد معانيها متداوَلاً لأنّها تحرج الكثيرين حين تقود وجوههم إلى وجه الحقيقة في فضّة مراياهم، وما صديق الشاعرة لدى طيف موشوم بطهارة البدايات ونقائها، يضيء عينيه لغد لا يخجل به الماضي، ويمضي في الطريق وحيدًا فيورثها خصوبة الألم: «وأزعم أنّي ضميرك حتّى/ تحدّر منّي ربيع الألم»، وهو المسكون بالحنين، بالحزن الذي لا يذهب به الماء عن الوجوه: «لا المدّ حين يباغتك الملح يكفي/ ليغسل عن قدميك الحنين»... ولا تخفي قاري أنّ ماء البدايات نهبته شمس النسيان وهو في حاجة إلى من يبعثه حيًّا في الوجدان العربي، وأنّ الرسول أمسى غريبًا ولا أحد يجرؤ على فتح الباب لكيس وصاياه الممهور بإصبع السماء: «تؤوم/ وماء البدايات جفّ/ وجفن النهايات رفّ/ ومن رغبة في احتواء الرسول/ تئنّ إذا ما الطريق انتصف»...حدائق الأمسوقد تكون قصيدة «القليل» الأكثر انفتاحًا على حدائق الأمس البعيدة، وفيها استرجاع لمفاتيح نصّيّة لا تزال مكتوبة بماء الذهب على أبواب الذاكرة العربيّة لأنّ أصحابها شعراء صارت أسماؤهم ساحة الماضي متّسعة للفارس والفرس والقصيدة: «مُرّي على أرض وإن «جاث عليّ»/ «عضّي على العنّاب» بالحلم البهيّ/ قولي أحبّك يا «عصيّ الدمع» حتّى لو غدرت»... ولا شكّ في أنّ قاري تستنجد بما مضى من الزمن الأخضر وهي وجهًا لوجه مع الزمن العربي الأخضر الذي يتبرّأ من أبيه القديم، ويخشى أن يدفع ثمن الاخضرار من صخب إرادته ودمه، لذلك يبقى محاصَرًا بلعنة الشعراء الرؤيويّين الذين يحتجّون بألم حين يرون رأس الشجرة يتبرّأ من أحلام جذورها ويمضي إلى فضاء ليس فيه شمس تحترم جبينه.وفي قصيدة «وطن» تبدو قاري، كما في كثير من قصائد مجموعتيها على علاقة وطيدة بجملة محمود درويش الشعريّة: «كان لا بدّ لي أن أحبّك أكثر/ وأن أتعذّب حتى أحبّك أكثر»... وتحاول أن تسكن دمها وتوسّعه لوطن تضيق به الجغرافية، حيث حجارته تستعطف الأيدي لترصفها حجرًا فوق حجر: «أحبّك أكثر/ أرى في دمي وطنًا يتعالى/ أرى وثنًا يتهاوى/ ويخطف ذاكرتي المتعبة»...وقاري حديقة الشهداء، وشهيدتهم حين تومئ لقلمها أن نجِّهِم من التراب ومُدَّ أجسادهم على الورق وكفِّنْها بحرير اللغة التي لا يتعب رحِمُها من اجتراح القصيدة: «واريتُهم في القصيدة/ قلتُ حروفي رداء الخلود»...في «تكابد لبلابها والأسماء لا تكفي لعصفورين» كتبت الشاعرة لطيفة قاري المرأة والرجل والوطن بقلم خبير في سَوْق مياه اللغة إلى طواحين القصيدة.
توابل - ثقافات
لطيفة قاري في «تكابد لبلابها والأسماء لا تكفي لعصفورين»...
05-08-2013