كان جاري في الطائرة المتوجهة من إحدى عواصم دول الخليج إلى القاهرة رجل أعمال خليجياً، وقد تحدثنا في السياسة كالعادة؛ حيث أظهر حرصاً كاملاً على "احترام خيارات المصريين وقراراتهم الخاصة بإدارة شؤونهم"، لكنه راح يدعو الله، بشكل بدا تلقائياً وعاطفياً، بأن "تعبر مصر أزمتها... وتعود كما كانت"!

Ad

يحترم الكثير من الخليجيين مصر والمصريين، وبالتالي فهم يحترمون رغباتهم الوطنية وطريقتهم في إدارة حياتهم، لكنهم في الوقت ذاته يتعاطفون مع مبارك، ويعتقدون أنه كان "حاكماً جيداً لهذا البلد"، وبالطبع فإنهم غير راضين عن حكم "الإخوان"، ولا مطمئنين على "مصر الجديدة" وعلاقتهم بها، ولا متفهمين للنسق الأخلاقي الجديد الذي بات عليه المصريون.

لطالما تعذبت وتأذيت حين كنت أقرأ بعض كتابات لمؤرخين مثل السيوطي والمقريزي وابن إياس وابن خلدون وغيرهم، ممن أبرزوا بعض ما اعتبروه شيئاً من سمات الشخصية المصرية؛ مثل: "السعي إلى السلطان وذم الناس"، و"النفاق"، و"مناصرة الغالب حتى لو لم يكن صاحب حق".

وللأسف الشديد، فقد كانت تلك الكتابات والأقوال تجد ما يدعمها أحياناً في سلوك ممجوج أبداه بعض المصريين تجاه عدد من الحكام المستبدين أو الغزاة الطغاة.

ظلت أخلاق المصريين تشغلني ربما بأكثر مما تشغلني أحوالهم. ولذلك، فقد كنت أحد الذين تحدثوا، في وقت مبكر، عن تغير فارق طرأ على المنظومة الأخلاقية التي حكمت المصريين قروناً في ما يتعلق بعلاقاتهم بالحكام. إنه التغير الذي تبلور في أوضح صوره عشية ثورة يناير، وخلال فترة الـ18 يوماً المجيدة، التي انتهت بإطاحة مبارك. وهو التغير الذي انعكس في سلوكيات مبهرة، أذهلت العالم أجمع، وجعلت قادة عالميين بارزين يؤكدون أن "المصريين يكتبون التاريخ كعادتهم"، أو يطالبون بـ"تدريس الثورة المصرية" في مناهج التعليم في بلادهم.

ثمة إشراقات حقيقية ولحظات مبهرة في تاريخ هذا البلد العريق، حفلت كلها بزخم أخلاقي واضح، انعكس في سلوكيات شديدة الانضباط والإيجابية، من قبل فئات مختلفة من الشعب المصري، وقد كانت تلك اللحظات كافة مقترنة بنهضة شاملة أو معبرة عن استجابة لتحدٍ عظيم.

لقد أضاف المصريون إلى سجلهم الأخلاقي، في تلك الفترة المجيدة، ما يمكن اعتباره أخلاقاً إيجابية غابت كثيراً عن سلوكهم السياسي والاجتماعي؛ ومن تلك الأخلاق بالطبع "الثورة على الظلم"، و"الروح الجمعية"، و"الفخر الوطني"، و"التضحية"، و"إنكار الذات"، و"إعلاء قيمة الحرية على ما عداها من قيم الاستكانة والعيش المُتاح".

ولم يقتصر الأمر على بروز تلك الأخلاق فقط، لكنه امتد ليزيح من الطريق عدداً من الأخلاقيات السلبية، التي كانت سبباً ونتيجة، في آن واحد، لحال التجريف التي شهدتها البلاد على مدى العقود الثلاثة الفائتة؛ ومن تلك الأخلاقيات السلبية: "اللامبالاة"، و"النزعة الفردية"، و"الإعراض عن الاهتمام بالشأن العام"، و"الانسحاق المجاني"، و"تدني الشعور بالفخر الوطني".

راحت السكرة، وجاءت الفكرة. وأفاق المصريون، والعالم، على واقع التحول الديمقراطي الشائك الصعب، في أعقاب ملحمة الثورة على الاستبداد والظلم، وراحت المرحلة الانتقالية الحرجة تلهب الأعصاب بسبب دقتها وصعوبتها، وتسمم الأجواء بسبب التصارع الفظ والخشن بين الفاعلين السياسيين على الغنائم أو المكاسب أو النفوذ أو الدور الذي يتشكل في "مصر الجديدة".

وكانت هذه العوامل مجتمعة، ومعها قابلية غريبة للانتكاس، إضافة إلى أدوار وافدة شريرة وموتورة، وراء بروز منظومة من الأخلاق السلبية، التي باتت تتكرس مع الأيام، إلى حد يمكن عنده تصور أنها ستكون عصية على التقويم وستقيم بين المصريين طويلاً.

من تلك الأخلاق السلبية أن هيبة المنصب العام، التي يجب أن تظل قائمة اعتباراً واحتراماً لما يمثله من يشغله وليس تقديراً لذاته، ضاعت وسُحقت سحقاً، حتى شاع الخوف من الإقدام على التصدي للعمل العام، وتزعزت هيبة الدولة، بشكل كاد يشل قدرتها على الوفاء بأدوارها ومسؤولياتها.

ومن تلك الأخلاق أيضاً تفشي نزعة التمرد، واحتلالها المكانة الأولى في قائمة أولويات الفرد والجماعة عند التعاطي مع أي من أُطر النظام العام.

ورغم أن المصريين ظلوا قروناً أمناء على انتظام منطق الدولة وإنفاذ إرادتها، مهما كانت فاسدة أو رخوة، فإنهم اليوم يذهبون في الاتجاه العكسي تماماً، وبالحدة نفسها، إذ بات الاستخفاف بالدولة وانتهاك القانون جزءاً أساسياً من سلوكهم اليومي.

لعل مسألة استباحة القانون في "مصر الجديدة" هي أكثر ما يزعج الغرباء والوافدين؛ إذ يرتاح السائح أو المقيم غالباً لوجود درجة عالية من احترام القانون في أي مجتمع، حتى لو كان هذا القانون ظالماً أو مختلاً.

يحدثني رجل الأعمال الخليجي بمرارة عن شعور جديد ينتابه في "مصر الجديدة" لم يكن اعتاده يوماً، رغم "امتلاكه منزلاً في القاهرة، وزياراته الدورية لها" على حد قوله. يقول الرجل إنه "لم يعد يشعر بالأمان"، وإنه لم يعد قادراً على "توقع ردود فعل المصريين"، سواء داخل مصر أو خارجها على أي تصرف أو سلوك، في الوقت الذي كان فيه هذا التوقع سهلاً وتلقائياً على مر عقود.

قلت لجاري في الطائرة إن المصريين يمرون بمرحلة انتقالية هي الأخطر والأهم في تاريخهم الممتد لآلاف السنين، وإنهم في هذه المرحلة يزعزعون الطغيان، ويهدمون عرش الاستبداد، وينفضون عن أنفسهم غبار آلاف السنين من الاستكانة والاستسلام للقمع. من المفهوم بالطبع أن يكون أول ما يصدر عن شخص تم قمعه وإسكاته لفترات طويلة صراخاً وكلاماً حاداً وربما شتائم وتهديدات، هذا ما يحصل الآن على الأرجح للمصريين. من المفهوم أيضاً أن يحاولوا الانتصار لأنفسهم وتعويض بعض ما فاتهم من كبرياء مستحقة، أهدرها نظامهم السابق، الذي لم يحفل يوماً بالفخر أو الكرامة الوطنية، فضلاً عن احترام كرامة المواطن.

المصريون يعانون أيضاً مشاعر سلبية كثيرة في هذه الفترة؛ منها بالطبع "الخوف من المستقبل"، وانعدام الشعور بالأمن، وأخيراً، وليس آخراً، هذا الشعور اللعين، الذي بات جزءاً من قراراتهم اليومية ومزاجهم العام... أي الشعور بـ"الغموض" و"تزعزع اليقين".

تنصهر تلك المشاعر كلها في بوتقة واحدة، فتنتج سلوكاً حاداً شديد الاهتياج أحياناً ومبالغاً في الإيحاء بـ"علو القدر والاستقلالية واستحقاق التقدير" في معظم الأحيان، وهو الأمر الذي قد ينعكس "استعلاءً وميلاً للعداء" في نظر شخص خليجي عرف الشخصية المصرية لعقود، وفطن، وربما ارتاح، لانبساطها و"سهولة" التعاطي معها، باعتبارها عزلاء من أي حماية قانونية أو اقتصادية غير ما يمنحه المتعامل معها طوعاً وتفضلاً.

سيهدأ الفوران الذي يكتنف الشخصية المصرية راهناً، وسيحافظ "المصريون الجدد" على فخرهم الوطني، وكبريائهم المستحقة، ونزعتهم المستقلة، واعتدادهم بالذات، وسيتخلصون من الميل العدائي، والاستعلاء الفارغ، ونزعة التمرد المجانية، والشعور بالغموض. وسيعود الأمن إلى شوارع مصر، والأمان إلى رحابها، ثم ستكون قادرة على إلهام شقيقاتها العربيات للسير في الطريق نفسه. هكذا يقول التاريخ.

* كاتب مصري