من الذاكرة: قص أظافر!
كان الصباح ندياً، وكنا ننتشر حول مبنى المدرسة المكون من ثلاث غرف متراصة متجاورة تحتضن مصطبة أسمنتية تطل على ساحة صغيرة خالية من الأشجار والورود، لكنها نظيفة ومفروشة بالحصا الفولية الصغيرة... وكان معلمنا الوحيد يحتل الغرفة الواقعة في الزاوية الغربية كمكتب وغرفة نوم ومطبخ وكل شيء، بينما الغرفتان الباقيتان تملأهما المقاعد الدراسية وتشغلهما محاصصة ثلاثة صفوف كلها صفوف ابتدائية.كنت وأتراب لي نتحلق حول زميل كان أحد الوافدين من قرية مجاورة، وكان ذلك الزميل، الذي طالما حدثنا عن مشاهداته في عمان التي كان يذهب إليها مع أمه لزيارة أخواله الذين يعيشون في أحد أطراف هذه المدينة الساحرة الجميلة، يطلعنا على آلة عجيبة يستطيع الإنسان أن ينهي قصَّ أظافره بها ويخرج سليماً بدون دماء ولا جروح ولا إصابات.
كنا قبل ظهور هذه الآلة العجيبة نستخدم الشفرات المحالة على التقاعد بعد استخدامها في حلق الذقون والرؤوس، وكانت جلسة قص الأظافر بمثابة جلسة تعذيب في أحد أقبية مخابرات إحدى الدول الثورية، وكان الطفل منا ينتهي من أي جلسة من هذه الجلسات بأصابع نحيلة تقطر دماً، وهو يتلوى ألماً وكأنه خضع لعملية جراحية بدون مسكنات.قرع جرس الطابور الصباحي فتناثرنا كزرازير هاجمها على حين غرة باشق كاسر، وتراكضنا نحو الساحة الصغيرة كعصافير مذعورة، وانتظمنا في ثلاثة طوابير كل حسب صفه وحسب طوله، وبالطبع فقد كنت أنا في مقدمة طابور صفي لأنني كنت الأقصر، كان الصمت مخيماً لا تقطعه إلا بعض "السعلات" المكبوتة، وكان أستاذنا الوحيد الممشوق القامة منتصباً كالرمح الرديني، وتعلو وجهه الطافح بالبشر دائماً ابتسامة حيية خلتها عريضة وصادقة. ران صمت كصمت أهل القبور لأقل من دقيقتين، ثم بعد نحنحة مبحوحة خفيفة قال أستاذنا وهو يحاول الارتفاع بالوقوف على رؤوس أصابع قدميه: "إن هذا اليوم عيد من أهم أعياد الأردن والأردنيين... إنه يوم عطلة لقد أصبح جيشنا العربي عربياً... لن يكون هناك ضباط بريطانيون في هذا الجيش بعد اليوم... لقد طردهم سيدنا جميعهم... لقد طُرد غلوب باشا وسيصبح قائد جيشنا بدءاً من هذا اليوم من أبنائنا وإخواننا".كنت أكثر زملائي حفظاً للأشعار، وكنت قبل أيام قد قمت بدور خالد بن الوليد في مسرحية بسيطة حضرها أهل القرية، بقضهم وقضيضهم، عنوانها "موت خالد"، ولهذا فقد انتدبني أستاذنا لأقود طلبة المدرسة كلهم بصفوفهم الابتدائية الثلاثة في تظاهرة نطوف بها شوارع قريتنا، وفي الحقيقة شارع قريتنا وشارعا قريتين صغيرتين ملحقتين بها، ولقد كان الهتاف الذي علمنا إياه معلمنا الوطني المبدع من وصلتين الأولى تقول: يا حسين بنحييك... الجيش العربي يفخر بيك.والثانية تقول: يا غلوب لا تعود... لا ترجع أنت مطرود.وانطلقنا أنا أردد هذا الهتاف وزملائي يرددون ما أقوله، وكنا نمر برعاة بدأوا لتوهم الانطلاق بأغنامهم نحو الوديان والهضاب المجاورة، وبنسوة بدأن أشغالهن الشاقة اليومية، وبرجال بين متثائب ومنهمك في إعداد قهوة الصباح ومنشغل بحراثة "حاكورته"، وكان معظم هؤلاء لا يفهمون ماذا نقول، ولا يعرفون سبب صراخنا في ذلك الصباح الباكر... لكننا واصلنا تظاهرنا حتى بحت أصواتنا، وعندما عدنا إلى مدرستنا وجدنا معلمنا في مكانه نفسه منتصباً كالرمح... وكان ذلك اليوم مشهوداً في تاريخ الأردن... لقد تعلمنا منه وعلمنا أشياء كثيرة، ولقد كانت أول تظاهرة أشارك فيها.