في عام 1998م كنتُ على موعد مع انبعاثة شعرية!... لا تدري من أين يأتيك جناح النورس وأنتَ في جزيرة مهجورة ليعيدك إلى الماء والبلل والعافية؟! في حين كنتَ تظن وأنتَ تدبّ كل يوم كسلحفاة عتيقة، أن أسفارك قد طُويت وأقلامك قد جفّت وأن الشعر جافاك إلى غير رجعة! حقاً إن للشعر أعاجيبه! ولعودته حالاتها!!

Ad

ويبدو أن الحنين إلى الشعر كان أيضاً حنيناً إلى موسيقاه وتردداتها المغرية الغامضة وأصدائها البدائية حدّ النقاء. لكنها موسيقى – ويا للدهشة – بدأت ترتدي لغة أكثر جنوحاً وكثافة، وأقلّ غنائية. هي إذن عودة إلى الوزن والتفاعيل ولكن بلغة مغايرة. إذ ما أبعد المسافة بين نص مثل (العصفور الأسود) أو (أمام الباب الموصد)، حيث اللوحة الوحيدة الممتدّة، وحيث الغنائية المسرفة حدّ الانتحاب، وبين نصوص مثل (ماذا لو) أو (أصدقاء) أو (عقارب) بكثافة رؤاها وصورها المتناسلة وأغوارها المضببة. هناك أيضاً – في مقام المقارنة بين المرحلتين– تحوّل من حالة البساطة والمباشَرة والانكشاف إلى لون من المراوغة والإغواء، وإلى التعويل على الإيحاء والإيماء، وإلى التعلق بالأخيلة المتأبّية والتعابير المكثفة:

ماذا لو/ يورقُ بستانٌ في بستان؟

.... تسقطُ أثمار الدهشة؟!/... تنقطُ أشربةُ في فمْ/ تنبضُ رعشة؟!

ماذا لو.../في سجفة هذا الليل السافي/نتجلّى؟/ نُمحى من لوحة هذا الوقت الحائل/ ننجو من دبق الساعات الكسلى/.... نتطاير؟/ ماذا لو .../نتصاعدُ أبخرةً/ نتلوّى دائرةً/ تنداحُ فضاءاتِ دوائرْ؟!

..................................

ماذا لو أنّا .../ نخلعُ نعلينا في وادي الفيروز / ونخلعُ عنّا عمرينا /

نخرجُ من آثامِ الأرضِ خِفافاً .../ ماذا لو أنّا ؟! ماذا لو أنّا؟! *

 ولعل هذا الميل إلى تقطير الشعور وتكثيفه تمخّض في بعض النماذج الموزونة عن ما يُسمّى بـ(قصيدة الومضة)، التي تبرق بلمحة مبأرة مستجمعةً كل النثارات في حزمة واحدة ، ومستغنية عن الفضفضة والاندياح باللقطة المباشرة المركّزة. وهذه النزعة تمثلها نصوص مثل: (فكرة)، (طير)، (حج)، (قًبْل)، في مجموعة (مجرّة الماء)**:

قبل أن أموتَ / شيعوا جنازتي / وأمطروا قبريَ بالورود

قبل أن أموتَ / اقتسموا شُجيرتي / أولئك القرود !!

إن تقلص مساحة النص البصرية في (قصيدة الومضة) لا يعني بأية حال أنها اختصرت زمن التذوق والاستيعاب عند المتلقي إن لم يكن العكس. إذ إن هذا اللون من التطور الذي تشهده التجارب الشعرية الحديثة يحاول قدر الإمكان نفي السهولة والمجانية والمباشَرة التي عادة ما تلازم النصوص الطويلة، والتي غالباً ما تنحو نحو تفسير التجربة الشعرية أو شرحها أو هلهلتها، عن طريق الإفاضة في الصور والأخيلة والاستسلام لإغراءات الاستطراد والتمدّد. ناهيك عما يعتري القصيدة الطويلة من إغواءات اللغة (المضللة!) كالإكثار من النعوت والمضافات إليه والمعطوف والتكرار والجمل المترادفة ... إلخ. وكلها أساليب لغوية أصبحت تقلل من شعرية النص ولا شك. ولعلنا لسنا بحاجة إلى التنويه، على ضوء الفهم الجديد لقصيدة الومضة، أن (النَفَس الطويل) لم يعد من شروط الشعرية ومقاييسها، بقدر ما هو من أسباب خفوتها وهلهلتها.

 إن تقلص المساحة في قصيدة الومضة كان حريّاً أن يخلق منها كوناً منكفئاً على (الخلاصة) و(البؤرة) و(الذرة) التي (انطوى فيها العالم الأكبر). ومن هنا فالنص لا يعطي نفسه طواعية أو بشكل ميسّر ومجاني، بقدر ما أصبح يعوّل على متلقٍ مثابر ذي خيال وأفق وروح متطلّعة.

*من نص: ماذا لو

** مجموعة: مجرّة الماء، دار المدى، دمشق، 2000م