بعد مقالين تناولت فيهما الأسباب التي أدت إلى خلخلة الحراك المعارض، والذرائع التي يسوقها كثير من الذين قاطعوا بالأمس للدعوة للمشاركة اليوم، سأختم السلسلة في هذا المقال بالتعليق عليها وصولاً إلى كيف يجب أن يكون عليه الحراك في المرحلة المقبلة.
من المهم أن ندرك، والكلام هنا موجه إلينا جميعاً، نحن من قاطعنا الانتخابات سابقاً، أن قرارنا بالاستمرار في المقاطعة أو المشاركة اليوم يجب أن يكون استناداً إلى هدفنا أصلاً منهما، فإن كان الهدف هو الوصول والسيطرة على أكبر عدد ممكن من مقاعد مجلس الأمة، بغض النظر عن شكل هذا المجلس وقيمته الفعلية في إدارة شؤون البلاد، وذلك بأي آلية انتخابية كانت، فسأقول إن الفرصة كانت متاحة لهذا من خلال الانتخابات التي مضت، وكذلك في الانتخابات القادمة ولا داعي للمقاطعة من الأساس، وأما إن كان الهدف، كما كانت معاني شعارات الحراك المرفوعة سابقاً تفتخر بأنها تقول، هو مواجهة سلطة أفرغت البرلمان من محتواه وتأثيره وقيمته، وانفردت بوضع قواعد اللعبة السياسية كما تريد، ولم ولن تتردد في أي لحظة عن إيقاف اللعبة وإبطالها بذرائع شتى إن هي لم تأتِ على هواها، فهذا كله لا يزال قائماً ولم يتغير، بل تزايد وتفاقم وصار أشد شراسة!المسألة بالنسبة إلينا نحن من سنستمر بالمقاطعة هي مسألة مبدأ يا سادة، مبدأ راسخ يتجاوز حدود مجلس الأمة بطريقة تشكيله الحالية، بل حتى سابقاً على طريقة الأربعة أصوات، مبدأ يتعلق بديمقراطية المشاركة الحقيقية وبأن الشعب هو مصدر السلطات جميعاً، وبالحريات والعدل المقر في الشرائع وفي كل دساتير الديمقراطيات الحقيقية حول العالم، ناهيك عن نصوص دستورنا التي أُفرِغت من روحها، فرأيناها تُنْتَقص وتُهدر بل تُذبح يوماً بعد يوم!المسألة اليوم قد أمست أكبر بكثير من أن نقلق من وصول مجموعة من المنتفعين الباحثين عن مصالحهم أو الموالين للسلطة إلى البرلمان، فالهم أكبر والجرح أعمق، ووضع البلاد قد بات بأسره مختطفاً، سياسياً واقتصادياً وتنموياً، وما وجود هؤلاء أو إبعادهم عن البرلمان، إلا كتأثير ملعقة من ملح ننثرها في ماء المحيط، لأنه بهم ومن دونهم، قد أصبح معدوم الفاعلية والتأثير، وقافلة الفساد تمضي منه أمام ناظريه بلا توقف!وأما من يبدي القلق من تزايد الوجود الشيعي في البرلمان، فأقول إنه قلق صنعته السلطة بنفسها وقامت برعايته، فالشيعة ومنذ القديم كانوا جزءاً من نسيج الوطن، وأما الطائفيون فقد ظهروا وتكاثروا في العقدين الأخيرين في الجانبين الشيعي والسنّي، سواء من النواب أو الكتاب أو الإعلاميين أو الناشطين وغيرهم، ولو شاءت السلطة لألجمت هؤلاء جميعاً وقمعتهم وجعلتهم عبرة لمن خلفهم، حماية لأمن الوطن بكل مواطنيه من السنّة والشيعة، ولكنها تلاعبت، ولا تزال، بأوراق هذه الفتنة. ولهذا فانزلاق المجتمع وانشغاله بالمعركة الانتخابية بشقها الطائفي عن حقيقة فساد السلطة هو أقصى أمانيها كي يستقر لها الأمر وتمعن في الهيمنة.لكننا وما دمنا نؤمن وننادي بالمقاطعة وعدم المشاركة، فبديلنا ليس أن نجلس واضعين أيدينا على خدودنا، بل بديلنا الاستراتيجي البعيد يرتكز على رؤيتنا الواضحة لحقيقة ما يجري، وهي أننا اليوم في خلاف عميق وصراع كبير قد يتطور كثيراً ويمتد طويلاً مع سلطة اختطفت الواقع السياسي فألغت قيمة الأدوات البرلمانية، وقلصت وقمعت الحريات جميعاً، وبالتالي فإن محاولة منازلتها عبر برلمانها الذي رسمت حدوده ومساحة تأثيره هو من السذاجة السياسية وخداع النفس وإضاعة الجهد.لقد حان للصراع أن يعود للشارع كما كان في بداية الحراك، لكن على أن يستمر هناك هذه المرة بفعاليات مرسومة بدقة لا تتوقف ولا تنقطع وتتصاعد وفق خطط واضحة، وأن نعود إلى الندوات والمحاضرات الجماهيرية على غرار «دواوين الاثنين» الشهيرة، وأن نحشد كل الأدوات الإعلامية التقليدية والحديثة المتاحة لمصلحتنا لكشف فساد هذه السلطة ومواطن عوارها بلا توقف، الأمر الذي سيتطلب طبعاً إبعاد تلك النماذج التي تسلقت الحراك فركبت موجته لمصالحها، مع بروز القيادة الحقيقية الصادقة للحراك، وسيعرف الجميع حينئذ وبوضوح ما الأهداف والمطالبات على وجه الدقة، وستتمايز الصفوف ولن يبقى فيها إلا المؤمنون بهذا الحراك حقاً.وعلينا أن ندرك من الآن، وقد قلت هذا في مقالات عديدة في السابق وأكرره، أن نستعد لنضال سياسي طويل الأمد. نضال قد يكون مؤلماً جداً، ولن تكون ثماره سريعة القطاف أبداً، ولكنها أكيدةٌ بإذن الله إن نحن فقط صبرنا وتمسكنا بالخيار السلمي، فوقائع التاريخ في القديم والحديث كلها تشهد بذلك، والله المستعان.
مقالات
هل فشل الحراك؟ (3- 3)
27-06-2013