في مفتتح كتابه «محمد مكية والعمران المعاصر» يقول معد ومؤلف الكتاب حسين الهنداوي: «لعل محمد مكيّة هو الفنان المعماري الأكثر صدقاً في التعبير العمراني عن حيوية وغنى الهمّ الجمالي العربي في القرن العشرين، ذلك عبر سلسلة تصاميم هندسية جميلة وأصيلة، عكست أيضاً نـزعة إنسانية عالمية التطلع وعراقية الجذور في آن معاً، تأصلت في مجالات عدة لتسهم في تجديد وتطوير الطراز العمراني التقليدي في الشرق العربي الإسلامي».
وهذا التقييم، كرسته مبادرة لجنة تحكيم دولية قبل عدة سنوات، بمنح محمد مكيّة جائزة أفضل فنان معماري ولقب «عميد التصاميم الهندسية العربية»، وتم ذلك خلال قمة المؤتمر الدولي للهندسة والاستثمار والتطوير المنعقدة في دبي عام 2003، والتي اعتبرت تكريم هذا المعماري الرائد تكريماً لفن العمارة العربي والإسلامي المعاصر.يختلف مكية عن الآخرين في الإبداع العمراني من خلال نجاحه في ترجمة القيم الجماعية، الروحية والجمالية، ليس عبر ممارسة تقنية مظهرية، بل أيضاً عبر ممارسة داخلية غايتها التعبير عن مضامين تلك القيم وأصالتها وعقلانيتها، وبكلام آخر هو ما يسميه بـ «البعد الإنساني» في العمارة.يستعرض الكتاب تجربة محمد مكية الفنية المعمارية في جميع مراحلها، خصوصاً إسهاماته في صروح معمارية نال بعضها شهرة عربية بل عالمية كجامع الخلفاء في بغداد وجامع الدولة الكبير في الكويت وتصميم لجامع الدولة في إسلام آباد وآخر لمقر جامعة الدول العربية في تونس حاز المرتبة الأولى في المسابقة الدولية في شأنه، كذلك الحال بالنسبة إلى تصاميم جامع الدولة في بغداد وجامعة الكوفة وجامعة الرشيد والمركز الثقافي الإسلامي في روما والعديد جداً غيرها.انتماء إلى المكانيتألف الكتاب من أربعة أقسام: جاء القسم الأول بعنوان «محمد مكيّة ومنظوره العمراني»، ويتحدث عن مرحلة البدايات وقصة مكيّة مع فن العمارة. أما القسم الثاني «دراسات لمحمد مكيّة حول العمارة الإسلامية» فيضم ستة أبحاث عن فن العمارة في الماضي والحاضر، ثم القسم الثالث «محاضرات ومداخلات حول العمران» ويضم تسع محاضرات ومساهمات للمؤلف في مجال الفن المعماري وعلاقته بالتراث الهندسي العربي، ويأتي القسم الرابع والأخير كـ «ملاحق» ويضم مقالات ومقابلات للمؤلف نشرت في عدد من الصحف العربية. وأخيراً سيرة وأعمال محمد مكيّة.اعتبر مكية أن العمران هو قبل كل شيء انتماء إلى المكان والزمان معاً، وألا انفصام بين القيم الإنسانية والروحية وبين العمران ووظائفه البيئية والجمالية، ومنذ إنجاز تصميمه الشهير لجامع الخلفاء ومنارته البديعة (منارة سوق الغزل في بغداد) قبل نحو نصف قرن، وأعمال مكية المعمارية تنهض تباعاً في عواصم عربية وإسلامية أخرى، وحتى أوروبية، مثيرة الاهتمام بجماليات مفرداتها الإسلامية المجددة وابتكاراتها المتميزة فنياً وتقنياً، إلى جانب نجاحها في ضمان تلبية شاملة لأهدافها الوظيفية الواقعية. وهو غالباً ما تحدث بمرارة عما حل في القرن العشرين بعمران مدن عربية عريقة مثل بغداد وصنعاء وجدة والقاهرة، لقد فقدت هويتها القديمة في رأيه، من دون أن تكتسب هوية جديدة. إذ امتدت الأحياء فيها كالأخطبوط من دون خطة أو هدف معقولين. ويعتبر مكية أن التراث قد يتضمن مكونات عتيقة أو أصبحت عتيقة، لكنه يتكون بشكل خاص من ثروات معرفية وأدوات فكرية وتقنية لا يمكن الاستغناء عنها لتطورنا القادم، إذا أردنا لهذا التطور القادم أن يكون حقيقياً وأصيلاً. من هنا فإن إطلاقه الدعوة إلى اكتشاف مبادئ وروح العمران الإسلامي واستلهامهما هو في نظره نوع من الوفاء لهما وتعبير عن جوهر الإيمان الإسلامي الذي ولد فيه ونشأ، والحقيقة الكبرى أن هذا الاستلهام وذلك الاكتشاف ليسا مضمونين بتاتاً، لا سيما وأن ما يطبع هذه الفترة التاريخية الاستثنائية بتعقيداتها هي أن الحضارة الغربية ما زالت وحدها ما يتحكم عمرانياً وما يهيمن على مقاليد الأمور الدولية ومن بينها البيئية بشكل تبدو معه هذه الحال كما لو كانت قدرية وحتمية في بعض وجوهها على الأقل.والحال أن زحف الحضارة الغربية ونزوعها العنيد سيستمر، ما دامت قادرة عليه، لفرض طرق تفكيرها ومنظوراتها الذوقية والقيمية الخاصة على الحضارات الأخرى كافة. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن تدفق المهندسين المعماريين العرب والمسلمين على الجامعات الغربية لدراسة العمران الغربي الحديث لا يقترن إلا بشك عديم الأهمية، بدراسة التراث العمراني الإسلامي، الأمر الذي يؤدي، إلا نادراً إلى قطع صلتهم شيئاً فشيئاً مع هذا التراث وتخليهم تدريجاً عن خصوصياتهم الروحية والذوقية، بشكل واع أو غير واع. ويرى مكية أن الوهم الكبير الذي يقع فيه الكثير من معماري العالم العربي والعالم الثالث أجمالا هو اعتقادهم الغربي بأن معطيات التكنولوجيا والعلوم الحديثة وإنجازاتها هي معطيات وإنجازات حيادية أو أنها مجرد أدوات صماء موضوعة في متناول أي إنسان يستطيع تسخيرها لفائدته، في أنها في واقعها الفعلي معطيات وانجازات خاصة بحضارة محددة وقائمة بذاتها، وبالتالي فهي منسجمة بشكل خاص، بل ومنبثقة من قيم تلك الحضارة وتراثها وخصوصية روحيتها ونمط علاقاتها الانسانية ومؤسساتها الروحية والاجتماعية ومناخاتها المختلفة وبيئتها.إحياء التراثيرى مكية أن النظرة الرومانتيكية إلى التراث هي نظرة عجز وجهل. والهدف من معرفة التراث إعادة إحيائه لخدمة متطلبات العصر والبيئة بأفكار جديدة متجددة وضمن هذا المطلب. ويطرح الأسباب التي تقف وراء دعوته إلى تمسك المعماريين المسلمين بأصالة حضارتهم العمرانية ورفض إضاعة هويتهم التاريخية والروحية. ويشدد في أكثر من مناسبة على الشرعية العميقة لهذه الدعوة التي تمتد لديه، أو يجب أن تمتد، إلى المجالات الإبداعية والإنتاجية والوظيفية كافة سواء العملية منها أو الأدبية أو الذوقية. ويرفض مكية الحداثة كلغة أو كمعيار لتقييد كل شيء، معتبراً أنها يجب أن تمثل تفاعلاً صحياً مع ما سبقها، أي مع التراث. أما إذا تجاوزت ذلك فإنها تصبح سطحية لأنها ستفتقر إلى شيء مهم هو الهوية، الهوية الإقليمية والهوية الإنسانية.ولد محمد مكيه عام 1914 في بغداد، في محلة «صبابيغ الال»، من المحلات القليلة الباقية التى رجح أصل سكانها بأنهم أسلاف «بغداد العباسية»، أنهى محمد مكيه تعليمه المعماري في إنكلترا، كذلك أنهى دراسته العليا في «كينغس كولوج» Kings College في كمبريدج عام 1946.يمكن رصد مرحلتين أساسيتين في نتاج محمد مكية المعماري؛ المرحلة الأولى، تبدأ منذ انهماكه في العمل المهني في العراق في نهاية الأربعينيات، وحتى بداية الستينيات، أي إلى ميقات تصميم «جامع الخلفاء» عام 1963؛ والتي عندها تبدأ المرحلة الثانية في مسيرة المعمار المهنية. باختصار شديد، ثمة حقبتـان رئيستـان في سيرورة المعمار: قبل جامع الخلفاء وبعده. بالطبع ثمة مراحل أخرى شهدتها مسيرة المعماري الذي ترك بصمة كبيرة في تاريخ العمارة العربية والإسلامية.
توابل - ثقافات
«محمد مكية والعمران المعاصر»...
30-12-2012