رأي : المعركة بين السيولة والحقيقة

نشر في 20-05-2013
آخر تحديث 20-05-2013 | 00:01
تمثّل الحالة الأوروبية مشكلة أيضاً. فاحتمال بقاء هذه القارة في حالة ركود معتدل أمرٌ وارد جداً
 بلاك ستون اعتقد معظم المهتمين بالشأن الاقتصادي والمشهد الاستثماري أن الأمر سيختلف هذه المرة. فمنذ بداية عام 2010 وحتى عام 2012 كان الاقتصاد وسوق الأوراق المالية يتسمان بالقوة في الربع الأول من العام، لكنهما كانا يشهدان تباطؤاً واضحاً بعد ذلك. وكانت مقولة "سارع إلى البيع في مايو وتوقف عن الاستثمار لفترة" جزءاً من المفاهيم الراسخة في أذهان المستثمرين ومديري محافظ الأوراق المالية. وأجمعت آراء المحللين والمختصين على أن الأداء الاقتصادي سيكون أفضل خلال عام 2013، وساد الاعتقاد بأن منافع برنامج التيسير المالي الهائل الذي ينفذه البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ستطغى على الآثار السلبية المحتملة المرتبطة بسياسات الحكومات.

وعلى أي حال، فهذا التفاؤل قد ينقلب رأساً على عقب بعد ظهور تقرير إجمالي الناتج المحلي الأميركي للربع الأول من هذا العام، والذي جاء أقل من التوقعات، إذ سجّل النمو الحقيقي نسبة 2.5% فقط. لقد أثّر الارتفاع الحاد الذي شهدته أسواق الأسهم حتى الآن على تقديرات المراقبين والمحللين الاقتصاديين. إذا عدنا إلى بداية يناير نجد أن أغلب التقديرات المستقبلية توقعت أن يبلغ النمو الحقيقي لإجمالي الدخل المحلي 2% أو أقل، لكن خلال الربع الأول من العام رفع كثيرون تقديراتهم إلى 3%. وجاءت نتيجة الربع الأخير من عام 2012 هزيلة، فلم يتجاوز النمو فيها 0.4%، لذا كان من المتوقع أن يعقبها بعض التحسن، وكان انتهاء فترة السماح الضريبي بمعدل 2% في الولايات المتحدة وكذلك التوقعات بتقليص الإنفاق الحكومي مدعاة لقلق شديد.

سؤال مهم

وهنا يُطرح سؤال مهم: إذا كان الاقتصاد لايزال يبدي دلائل ضعف، ألا يفترض أن يظهر أثر ذلك على أرباح الشركات؟ حتى الآن قدّم أكثر من نصف عدد الشركات المسجلة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 تقارير نتائجها في الربع الأول من العام، وتجاوز 70% منها توقعات الأرباح. فقط 20% من هذه الشركات لم تتجاوز التوقعات. لكن عند النظر إلى الإيرادات، نجد القصة مختلفة، فـ 43% من الشركات التي نشرت تقاريرها قالت إن المبيعات جاءت أقل من التوقعات.

وبينما يبدو أن هناك دلائل متزايدة على أن النمو يحتمل أن يكون أقل من توقعات المتفائلين، فلنا أن نتساءل عما إذا كان هذا سيحدث فرقاً. إذا كان ارتفاع الإيرادات يتم بمعدل أبطأ من ارتفاع الأرباح، فيمكن أن ننتظر نتائج أرباح مخيبة للآمال في المستقبل، لكن هذا يصح فقط إذا لم تكن الإيرادات كافية لتغطية ارتفاع التكاليف، وفي ظل انخفاض أسعار السلع ومع الاستقرار النسبي لتكاليف العمالة، قد تكون الضغوط المرتبطة بارتفاع التكاليف محدودة.

وتقول مؤسسة "نيد دايفيز للأبحاث" إن الاقتصاد العالمي يعاني نمواً بطيئا جداً. لقد بقيتُ قلقاً من بلوغ هوامش الربح ذروتها، فهذا يجعلنا نتوقع أن تكون الأرباح مخيبة للآمال، وفي نتائج الربع الأول من العام ظهرت أمثلة بالفعل على هذا التوجه، شملت خمس شركات هي: آي بي إم، وكاتربلر، وبنك أوف أميركا، وبروكتر آند غامبل، وجنرال إلكتريك. ففي هذه الحالات الخمس حيث انخفضت هوامش الربح بنحو 10% أو أكثر (بعد ارتفاع بنحو 10%) ظهر الاقتصاد في حالة ركود. لا أعتقد أننا نتجه نحو حالة ركود في القريب العاجل، لكن السؤال هو: هل نحن في خطر من حدوث انكماش في هوامش الربح على الرغم من ذلك؟ توضح مؤسسة دايفيز أن تأرجحات هوامش الربح اتسعت على مدى الأعوام الـ25 الماضية بسبب تدابير الدعم المالي. وسجلت هوامش الربح أعلى معدل لها في الربع الثالث من عام 2011، لتظهر أن الشركات بلغت ذروتها من الكفاءة. وتسارع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بمعدل 40% منذ 30 سبتمبر 2011، لكن الأرباح وفق مبادئ المحاسبة المقبولة بصفة عامة (GAAP) نمت بمعدل 2% فقط في الفترة ذاتها. وبعد الذروات السابقة التي بلغتها هوامش الربح، تراجعت الأرباح في تلك الفترة. فالعامل الأساسي هو هل بإمكان الإيرادات أن تحافظ على ارتفاع هوامش الربح أم لا؟ يمثل الإنفاق الاستهلاكي حوالي 70% من الاقتصاد الأميركي، ويتجاوز كلٌّ من الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي والاسمي معدلاتهما المسجلة عام 2008، إذ إنهما ينموان بمقدار 2% و4% على التوالي. لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه المعدلات يمكن أن تستمر، وأنا قلق من احتمال تراجعها. فإن تراجعت، فإن الأرباح ستكون مخيبة للآمال بالتأكيد.

عامل مهم آخر يؤثر على خطى الاقتصاد هو معدل نمو اقتراض القطاع الخاص. فمع وصول مستويات النقد في ميزانيات الشركات ومعدلات التشغيل إلى 80% لا تبدو هناك حاجة إلى الاقتراض، خاصة إذا لاحظنا السحب القاتمة في سماء توقعات النمو. ووفقاً لمؤسسة "إنسيما غلوبال" (Encima Global)، تزايد نمو اقتراض القطاع الخاص بمعدل 9.4% سنوياً في الأعوام الخمسة التي انتهت في سبتمبر 2007. وبالرغم من بلوغ الفائدة أدنى معدلاتها، ازداد نمو اقتراض القطاع الخاص بمعدل لم يتجاوز 0.7% سنوياً في السنوات الخمس التي انتهت في ديسمبر 2012. وكان نمو الديون بطيئاً طوال هذه الفترة بسبب ضعف الطلب. وبلغ ارتفاع إجمالي الديون 3.5% فقط سنوياً، وهو ما يدعم أيضا فرضية النمو البطيء (حوالي 2% نمو حقيقي فقط).

بقاء الركود

وتمثّل الحالة الأوروبية مشكلة أيضاً. فاحتمال بقاء هذه القارة في حالة ركود معتدل أمرٌ وارد جداً. لقد أظهر أحدث التقارير حول توقعات الرؤساء التنفيذيين والمستهلكين في دول الاتحاد الأوروبي أنها في أدنى مستوياتها منذ ديسمبر الماضي. فقد انخفضت ثقة قطاع الأعمال في ألمانيا، كبرى اقتصادات أوروبا، بأكثر من المتوقع. كما انخفضت توقعات المصنّعين وشركات توفير الخدمات أيضاً. وبالرغم من ذلك، يعتقد دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، أن أوروبا ستستعيد عافيتها بنهاية عام 2013. ومما يدعو إلى القلق في الحالة الأوروبية أن موازنة المركزي الأوروبي تقلصت من 3.1 تريليونات يورو إلى 2.6 تريليون، خاصة عند مقارنتها بالسياسة التوسعية للاحتياطي الأميركي.

وطوال الشهر الماضي، ثار جدل كبير حول جدوى سياسة التقشف. فالكثير من الدول الأوروبية ظلت تقلّص إنفاقها الحكومي لخفض العجز الذي تعاني منه، كما انخرطت الولايات المتحدة أيضاً في برنامج لخفض عجز الميزانية. وكان البحث الأكاديمي المهم الذي مهّد لسياسة خفض العجز هو الذي قام به كارمن رينهارت وكينيث روغوف. ومؤخراً، اكتشف باحثون من جامعة "ماساتشوستس أمهرست" أخطاء ونواقص في بحث رينهارت/روغوف، وهو ما أثار تساؤلات حول صحة استنتاجاتهم. فبحث رينهارت/روغوف يفترض أنه عندما تصل نسبة "الدين إلى إجمالي الناتج المحلي" إلى 90% بالنسبة لدولة ما، فإن النمو سيتباطأ بصورة ملحوظة، لذا تجد الدول مبرراً قوياً للتدخل ومحاولة ضبط العجز الذي تعاني منه لمنع تراجع النمو. وانصاع صانعو السياسات الذين اعتقدوا أن الحكومات يجب أن تنفق أكثر لاستحداث الوظائف وللاحتفاظ بالموظفين الحاليين ولتحسين البنى التحتية، لنتائج هذا البحث وقرروا إعادة النظر في مواقفهم.

والآن، مع تصاعد الشكوك في صحة هذا البحث الأكاديمي، ارتفع صوت معارضي التقشف، فالمسألة الحقيقية هي تحديد أيهما السبب وأيهما النتيجة. هل الاقتصاد الضعيف يجعل الدين الحكومي يرتفع بينما يزداد الإنفاق الفيدرالي لمواجهة التباطؤ، أم أن ارتفاع الدين هو ما يجعل الاقتصاد يضعف بسبب خفض الإنفاق الحكومي؟ في الولايات المتحدة، يساهم الإنفاق الحكومي بأكثر من 20% من إجمالي الدخل المحلي. فإذا طُبقت سياسة تقليص الإنفاق الحكومي بحذافيرها، فسيشعر بها الاقتصاد حتماً. لكن كما رأينا في حالة الإجازات الإجبارية الممنوحة لمراقبي حركة الطيران، فإن رد فعل الناس على هذا التطبيق يحتمل أن يكون عدائياً في الولايات المتحدة تماماً كما كان في أوروبا. ومن المحتمل أن يؤدي تقليص الانفاق الحكومي بالإضافة إلى الارتفاع النسبي في معدلات الضرائب إلى تثبيط النمو هذا العام.

والرأي المهم، وربما المخيف، المعارض للتقشف يطرحه الاقتصادي الشهير بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل. فهو يرى أن قضية التقشف غدت مسألة أخلاقية، حيث عاش مجتمعنا بمستوى أكبر من إمكاناته الفعلية، ونحن الآن ندفع الثمن في صورة نمو بطيء. وهو يركز على مسألة أن أولئك الذين يعانون الآن من تبعات التراجع الاقتصادي ليسوا هم من استمتعوا بالترف والبذخ خلال أوقات الرخاء. ويعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من المحفزات المالية لتوفير الوظائف ولتحسين البنى التحتية، ويرى أن بإمكاننا تحمل ذلك، لأن تكاليف اقتراض الخزينة منخفضة جداً.

وأميل إلى التعاطف مع هذا الرأي، لكن يبقى التراكم السريع للدين مصدر قلق كبير لدي. ففي عام 2000 بلغ إجمالي الدين الفيدرالي 6 تريليونات دولار أميركي مجمعاً على مدى أكثر من 200 عام، بينما بلغ معدل الفائدة المختلطة 6% أو ما يعادل 360 مليار دولار. واليوم بعد مضي 13 عاماً على هذا التقدير، أصبح الدين 17 تريليون دولار ومعدل الفائدة المختلطة 2%، أي ما يعادل 360 مليار دولار أيضاً. لاحظوا أن حوالي 60% من ديننا الفيدرالي يتم تمويله على المدى القصير، وهذا لا يعتبر تخطيطاً مالياً سليماً على الإطلاق.

معظم المستثمرين مندهشون للقوة التي يبديها السوق هذا العام حتى الآن، ومع احتمال استمرار البنك الفيدرالي في توفير السيولة لمواجهة بطء النمو، يبدو أن الأسعار ستستمر في الارتفاع. لقد كنت حذراً حيال ذلك، وما أزال، لذا أرى أن مؤشر ستاندرد آند بورز للشركات الـ 500 قد لا يحقق كثيراً من التقدم من الآن وحتى نهاية العام. وستثبت صحة شكوكي إن حدث أحد شيئين: إما أن ترتفع معدلات الفائدة، أو أن تأتي نتائج الإيرادات والأرباح أقل مما هو متوقع الآن، وأعتقد أن الاحتمال الأخير أقرب إلى الصحة.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون

back to top