مقاطع من سيرة شعرية 6

نشر في 19-02-2013
آخر تحديث 19-02-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس كان لمباهج الروح وغبشها ضفّتان في تلك المرحلة المبكرة: ضفة نائية متلفعة بسريتها ودهاليزها، منكفئة على العطش والأشواق الغامضة والسراب القلبي، أما الضفة الدانية فظاهرة في الوجه البارد والعينين الهاربتين، والصوت الباهت والظل المموّه.

أي عذاب أن تظل تسير على هذا الخط المرهف الجارح كحدّ السكين، فلا أنتَ تهبط على الضفة النائية فتتضوّع وتنمو لكَ الأجنحة، ولا أنت تسقط على الضفة الدانية فتضيع كسقط المتاع مع البسطاء والعوام والمنسيين الذين يزحمون العالم!

كان لزاماً على النفس لكي تدخل مدرسة الطيران أن تضخّ بضع شرارات في الصوت الباهت، وترشّ الظلَّ المموّه ببعض الألوان. لا غرو وقتئذ أن تتابعت نصوص بدائية طالبة الانعتاق من عتمة الجوارير وسجن الأوراق الهزيلة. ولا غروَ أن زامنتها محاولات أولى في كتابة المقال والدراسة الأدبية. كانت هذه الأفراخ تتعلم الطيران قبيل مغادرتي لمقاعد الجامعة، وكانت تتوق لرؤية ضوء النهار متمردة على هشاشتها وزغبها الغضّ.

في هذه المرحلة تأتي (رابطة الأدباء) في الكويت لتهبني الثقة والدعم والاحتواء. ولعل الحديث يطول حين التعريج على دور رابطة الأدباء وأثرها في جيلي وفي الجيل السابق علينا. فرابطة الأدباء التي تأسست عام 1966م، كانت قد أوجدت لها قاعدة طلائعية من المخضرمين والشباب أواخر السبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، وهي المرحلة المهمة التي عاصرتُها في بداياتي حين كنت طالبة في جامعة الكويت، أو بعد تخرجي بقليل. ورغم تقاطع الأجيال في أبناء الرابطة وأعضائها إلا أن الجو العام في منتدياتها ومجلتها (البيان) كان منفتحاً وثرياً ومتعدد المشارب، بل ومرحباً بحفاوة بما تقدمه محاولات الجيل الأحدث عهداً. ويحضرني في هذا المقام ما اتسم به رموز الرابطة ومؤسسوها حينذاك من تفهّم واستيعاب للتجارب الغضة، وما اتصفوا به من مرونة لافتة وتواضع جمّ، واستعداد للحوار رغم فارق الأجيال والأذواق، والأهم من ذلك ما أظهروه من حنو وحدب إزاء خطواتنا المتلكئة. في رحاب هذه الروح التي رانت على مؤسسة الرابطة كنا ننمو ونتفتّح وتنمو معنا الطيور والكلمات، مشمولين بنظرات الحدب ترمقنا عن بُعد، وتوسع لنا منصات الظهور شيئاً فشيئاً دون إفراط أو تفريط.

وتأتي مجلة (البيان) لتكون الدفتر الأول لمحاولاتي البازغة في الشعر، والصفحة التجريبية لكتاباتي في الظواهر الشعرية. على نطاق الشعر كانت تلك مرحلة (العصفور الأسود) و(العنقاء) و(عندما ينتصر الحزن) و(البحث عن ملامح في مدينة الكرنفال) و(أشلاء عام وغربتي) وغيرها من النصوص التي سقطت من الذاكرة وبَهتتْ مع مرور السنوات. ولكنها تبقى بطفولتها المرتبكة وغنائيتها المسرفة علامة مميزة على مرحلة اكتشاف الذات. وتظهر منذ هذه المرحلة المبكرة ثنائية الحب المفقود و(الزمن) المنسكب في العراء قبل أن تجد لها مجاري أكثر عمقاً وتجسيداً في ما تلا من مراحل، رافق ذلك التعلقّ برموز الطيور والأجنحة، ربما لتخفف من جهامة العالم الذي بلا حبّ ومن صفاقة زمن بلا نوعية، ولتشيَ أيضاً بالتلازم بين الإحساس بالضعف والهشاشة والارتهان من جهة، والحلم بالانعتاق والخلاص من جهة أخرى.

أما (الذاتية) التي تعلن عن نفسها في مجمل نصوص المرحلة الأولى، فلعلها سمة عامة في الشعر النسوي لدى شاعرات جيلي (غنيمة زيد الحرب وجنة القريني). والسمة العامة عادة تأتي إفرازاً طبيعياً لملامح المرحلة التاريخية وظلالها المجتمعية والثقافية. والذاتية بما تعنيه من انكفاء وسفر نحو الذات تكاد تكون ردة فعل طبيعية إزاء وضع المرأة الشاعرة كظاهرة ثقافية خضعت للكثير من الإلغاء والتحجيم على مدى العصور والحقب. ناهيك عما يحاصر قدراتها الإبداعية وقواها النفسية من تابوهات ومحرمات وخطوط حمراء، تصب أحياناً في مجرى العادات والتقاليد، وتصب أحياناً أخرى في أنساق ثقافية وقوالب حدّدت مساحة القول والشعور في الشعر النسوي وروّضته على مدى الحقب ليكون شعراً طيّعاً وخادماً أميناً للنسق الثقافي المرغوب أو المسموح به.

back to top