تتعرض مصر لهزات عنيفة مؤيدة ومعارضة لحكم الرئيس محمد مرسي وذلك في الذكرى السنوية الأولى لتسلمه السلطة، ويكمن تحت الغليان السياسي والأسئلة المتعلقة بالشرعية تحديات اقتصادية عميقة يتعين مواجهتها وحلها من قبل أي شخص سيحكم مصر.

Ad

وقد تغلبت على آمال مصر في "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية" الوتيرة البطيئة في التغيير الاقتصادي، وبدلاً من القيام بإصلاحات كانت مصر تعول على جيرانها الأثرياء في الحصول على النقد بصورة غير مشروطة من أجل استيراد الغذاء والوقود. ودفعات قطر التي بلغت 3 مليارات دولار في الآونة الأخيرة قد توفر غوثاً مؤقتاً، غير أن عدم قابلية التنبؤ بمثل هذه الإجراءات- التي تشمل الوعد الذي قدمته المملكة العربية السعودية في الأسبوع الماضي بتقديم قرض الى مصر بقيمة 500 مليون دولار- يخيف المستثمرين كما يؤجل التعزيز المالي المحتم الذي تحتاج مصر إليه من أجل استقرار اقتصادها.

ومع مرور الوقت تزداد الحاجة إلى الإصلاح إلحاحاً حيث يزيد معدل البطالة عن 13 في المئة بعد أن كان 9 في المئة في سنة 2010. وتظهر أحدث المعلومات والبيانات أن ربع عدد السكان يعيش في فقر، وهذه النسبة في ازدياد، كما أن الاحتياطي الأجنبي هبط من 36 مليار دولار قبل الثورة إلى حوالي 13 مليار دولار في شهر مارس الماضي، وذلك قبل وصول الأموال من قطر، وتنتعش أسواق السوق السوداء في الدولار والوقود.

تسارع الإصلاح

التخلي عن النظام السياسي والاقتصادي وبناء نظام جديد لا ينبع مطلقاً من التوجس لأن تاريخ المراحل الانتقالية الديمقراطية يظهر أن الإسراع في تحقيق ذلك الهدف مسألة أساسية. والدول التي تتحول بسرعة إلى الديمقراطية تنمو بوتيرة أسرع في الأجل الطويل بنسبة تصل إلى نقطة مئوية واحدة فوق معدلاتها في فترة ما قبل المرحلة الانتقالية. وعلى العكس، فإن الدول التي تحتاج إلى ثلاث سنوات للتكيف تعاني اتساع نطاق معدلات النمو الاقتصادي الضعيفة، وتدفع سنوات عدم اليقين، والقلاقل في بعض الأوقات، المستثمرين إلى الترقب والانتظار لرؤية مؤشرات على حدوث استقرار سياسي واقتصادي.

وتقترب مصر من الوصول إلى علامة السنوات الثلاث التي تفصل الانتقال السريع عن البقية، ويتعين على السياسيين فيها طرح خطة شاملة يمكن التنبؤ بها من أجل تحقيق ديمقراطية فاعلة وإجراء تعديلات اقتصادية سريعة، ثم إن تكلفة التأجيل المتواصل ستكون هائلة، بما في ذلك سنوات ارتفاع معدلات البطالة، ومن خلال العمل السريع حققت دول مثل تشيلي وبولندا وكوريا الجنوبية معدل نمو متوسط للفرد بلغ حوالي 5 في المئة بعد عقد من بدء عملية الانتقال فيها، غير أن المكسيك ورومانيا وزامبيا حيث كانت وتيرة الانتقال بطيئة فقد قارب متوسط النمو الصفر طوال عقد من الزمن.

والتناقض بين بولندا ورومانيا يبدو لافتاً بشكل خاص، فقد سهل النجاح الاقتصادي في بولندا إجراء الانتخابات السلمية وإصلاحات السوق، وبحلول سنة 1998 جذبت بولندا 40 في المئة من الاستثمارات الأجنبية في وسط وشرق أوروبا، فيما اختطف الشيوعيون عملية الانتقال السياسي في رومانيا التي واكبتها مظاهرات متكررة، وكان أن تأخر التحول الاقتصادي فيها في غضون ذلك من خلال المطالب الشعبية الداعية الى استمرار دعم الدولة.

ويكافح الاقتصاد المصري في الوقت الراهن تحت مرحلة انتقالية خاصة به، واستمرت المحادثات غير الحاسمة لأكثر من سنة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي حول صفقة قرض لمساعدتها، مع  عدم وجود حل في الأفق على الرغم من تدفقات صندوق النقد الدولي إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويرجع قدر كبير من هذا التردد طبعاً إلى اعتبارات سياسية، ويخشى المصريون من القيود المرتبطة ببرنامج صندوق النقد الدولي، كما أن العديد من مستثمري الصندوق يشعرون بقلق من معاملة مصر المتشددة بصورة متزايدة مع المنظمات الأجنبية غير الحكومية.

غير أن تلك ليست القصة كلها، ومصر في حاجة حقاً إلى برنامج اقتصادي قابل للحياة من أجل نيل قرض صندوق النقد الدولي.

عملية إعادة توازن بارعة

إن المقاربة الصحيحة المتعلقة بمشاكل مصر الاقتصادية تتمثل بإرغامها على قبول الإصلاحات الاقتصادية الآن وذلك من خلال إنهاء الهدر في النفقات خصوصاً ما يتعلق بدعم الوقود الذي يكلف الخزينة المصرية قرابة نصف العوائد الحكومية في وقت يصل فيه العجز في ميزانية الدولة أكثر من 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو في ازدياد كما أن من شأن ذلك التشجيع على استهلاك الطاقة، خصوصاً في أوساط الأثرياء المصريين، فيما لا يقدم سوى القليل إلى المحتاجين بقدر أكبر. وعملية إعادة توازن بارعة في الميزانية من شأنها خفض تلك المساعدات، وتضيف المزيد إلى شبكة الأمان الاجتماعية بالنسبة إلى الفقراء، كما أن ذلك سيفضي إلى خفض العجز المالي.

ويمكن للإصلاح أن يتحقق حتى في ظل انتقال سياسي صعب شريطة إعادة توجيه الإنفاق الاجتماعي إلى الفئات المحتاجة وتعبير الحكومة بصورة واضحة عن القرارات المتعلقة بالسياسة، وبمجرد تحديد الطبقة الفقيرة يمكن أن تتدفق التحويلات النقدية أو المساعدات المستهدفة إلى تلك الطبقة إثر إزالة المساعدات العالمية.

لقد نجحت البرازيل في إنهاء دعم الوقود في التسعينيات من القرن الماضي وفي مطلع الـ2000 واستبدلتها بقسائم بنزين مستهدفة وتحويلات نقدية إلى العائلات المتدنية الدخل. وقد تمثل الجانب الأساسي في نجاحها بالتحاور والتخاطب ومعالجة المصالح السياسية عبر التسلسل- في البدء شملت العملية المنتجات البترولية المستخدمة من قبل الشركات، ثم الغاز المسال وأخيراً الديزل وحماية الفقراء. وكانت تركيا والفلبين وبولندا وتشيلي وكينيا- بين دول أخرى- قامت بإصلاحات مماثلة. أما نيجيريا التي طبقت إصلاحات مدمرة في السنة الماضية من خلال خطوات متسرعة واستعدادات عامة غير واضحة فهي المثل المعاكس.

ويطرح التاريخ درساً آخر: الأنظمة الشعبية أو المطلقة هي الأكثر احتمالاً للنجاح في عمليات الإصلاح الاقتصادي، وفي البرازيل، على سبيل المثال، حظي رئيس الجمهورية السابق فرناندو هنريك كاردوسو بثناء رفيع بسبب سيطرته على التضخم المرتفع الأمر الذي أعطى مصداقية إلى برنامجه في الإصلاح المبني على المساعدات. وفي بولندا تم تخفيف عملية الإصلاح الاقتصادي بعد المرحلة الانتقالية من خلال دعم شعبي للتغيير الديمقراطي. وعلى النقيض من ذلك فإن تركيا قامت أولاً بمعالجة المساعدات المتعلقة بالكهرباء في ظل نظام عسكري في الثمانينيات من القرن الماضي. وكان التعبير "سياسة الصدمة" الذي تحول في ما بعد إلى ما يطلق عليه "العلاج بالصدمة" قد وضع من قبل ميلتون فريدمان في إشارة إلى الإصلاحات الاقتصادية في عهد الدكتاتور السابق أوغستو بينوشيه في تشيلي.

الإصلاحات في مصر

ويشير ذلك إلى نوعين محتملين من استراتيجية الإصلاح الاقتصادي في مصر: الأول، هو أن محمد مرسي قد يسعى إلى تجديد الدعم الشعبي من خلال الإصغاء الى المطالب الشعبية بحيث يتمكن من الحصول على شرعية تخوله القيام بإصلاحات اقتصادية. كما أن عملية الإصلاح السياسي ستخفف أيضاً من التوتر مع المانحين الغربيين وتجذب من جديد المستثمرين والسياح. ومع تطبيق خطة اقتصادية جادة سيعطي محمد مرسي إشارة على انفتاح مصر أمام الأعمال التجارية.

أو ربما يسعى مرسي إلى مقاربة ثانية أو أسلوب آخر: الاستفادة من تاريخ مصر في البيروقراطية من أجل دفع بعض الإصلاحات الاقتصادية الضرورية تحت التهديد باحتمال حدوث أزمة اقتصادية، ويمكن للمساعدة من الدول المجاورة أن تساعد في تحقيق هذه التعديلات.

وعلى أي حال فإن هذه الاستراتيجية أقل احتمالاً في ما يتعلق بتمهيد السبيل أمام برنامج صندوق النقد الدولي بقيمة 4.8 مليارات دولار الذي كان موضع مناقشات منذ أكثر من سنة، وبلوغ اتفاق حول ذلك البرنامج أساسي من أجل الحصول على أموال من مؤسسات مالية دولية أخرى. والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وهما الجانبان اللذان يمكن أن يساعدا في سد الثغرة المالية الخارجية المتبقية والتي تقدر بأكثر من 10 مليارات دولار.

على الرغم من قلق حكومة مرسي من فرض أعباء جديدة على المصريين فإن تأجيل عملية الإصلاح سيفضي فقط إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية في البلاد، كما يجعل التعديلات الضرورية أكثر صعوبة وتكلفة. ثم إن الاستراتيجية الحالية المتمثلة بالتعويل على دول الخليج العربي في عمليات التمويل- ومن دون برنامج اقتصادي واضح- سيزيد فقط من سوء الأوضاع في مصر.

Caroline Freund

* باحثة زميلة رفيعة في معهد بيترسون للاقتصادات الدولية ورئيسة سابقة لاقتصاد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى البنك الدولي.