إن إنهاء الاستقطاب العميق وإراقة الدماء في مصر يتطلبان خطوة أولى عاجلة: إعادة تنصيب محمد مرسي رئيساً منتخباً لمصر. فلم يكن إبعاده بانقلاب عسكري مبرراً، ولئن كان صحيحاً أن الملايين من المتظاهرين عارضوا حكم مرسي، فإن حتى احتجاجات الشوارع الحاشدة لا تشكل حجة صالحة لتبرير الانقلاب العسكري باسم "الشعب" ما دامت نتائج الانتخاب تقول عكس ذلك بشكل متكرر.

Ad

لا شك أن المجتمع المصري منقسم بشكل عميق على أسس طائفية وإيديولوجية وطبقية وإقليمية، ولكن البلاد ذهبت إلى صناديق الاقتراع عدة مرات منذ الإطاحة بحكم مبارك الذي دام ثلاثين عاماً في فبراير 2011. وقد أظهرت النتائج دعماً شعبياً قوياً للأحزاب والمواقف الإسلامية، ولو أنها أظهرت أيضاً الانقسامات في البلاد.

في أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012، عقدت مصر انتخابات برلمانية. ونجح حزب الحرية والعدالة الذي أنشأته جماعة "الإخوان المسلمين" في تأمين الأغلبية، وحصلت الكتلتان الإسلاميتان الرئيستان الأخريان معاً على نحو ثلثي الأصوات.

وفي يونيو 2012، فاز مرسي على منافسه أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، بهامش 52% إلى 48%، لكي يفوز بمنصب الرئاسة. وفي استفتاء شعبي جرى في ديسمبر 2012، وافقت أغلبية بلغت 64% من المصوتين على مشروع الدستور الذي دعمته جماعة "الإخوان المسلمين" (ولو أن الإقبال على التصويت كان منخفضاً).

والواقع أن الحجة التي يسوقها العلمانيون بأن شهوة مرسي للسلطة عرضت الديمقراطية الوليدة في مصر للخطر لا تصمد أمام التمحيص. فقد استخدم خصوم "الإخوان المسلمين" من العلمانيين والمؤسسة العسكرية ومن المنتمين إلى عصر مبارك كل وسيلة تحت تصرفهم، سواء كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، لمنع الأحزاب الإسلامية من الممارسة الديمقراطية. ويتفق هذا مع عقود من النمط القديم في التاريخ المصري، حيث كانت جماعة "الإخوان المسلمين"- والقوى السياسية الإسلامية عموماً- محظورة بالقانون، وحيث تعرض أعضاؤها للسجن والتعذيب والنفي.

وتنبع المزاعم بأن مرسي لم يحكم بالديمقراطية من محاولاته المتكررة لتخليص البرلمان المنتخب شعبياً والرئاسة من الفخاخ المناهضة للديمقراطية التي نصبتها المؤسسة العسكرية. فبعد الانتصار الكبير الذي حققته الأحزاب الإسلامية في انتخابات 2011- 2012 البرلمانية، عملت قيادات المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية (العامرة بقضاة من عهد مبارك) على تعطيل البرلمان الجديد ومنعه من تأسيس جمعية لصياغة مشروع دستور جديد.

وكان التحرك الرئيسي في يونيو 2012، عندما ألغت المحكمة الدستورية العليا، التي يشغلها بالكامل قضاة باقون من عهد مبارك، نتائج الانتخابات البرلمانية على أسس خادعة، وكانت المؤسسة العسكرية تستعد للاستئثار بالسلطة التشريعية كاملة. وبالتالي فإن انتصار مرسي لاحقاً في الانتخابات الرئاسية مهد الساحة لمعركة ملحمية حول مستقبل البرلمان والدستور، فيما حاول مرسي حماية البرلمان المنتخب ديمقراطياً في حين جاهد الجيش لحله. وفي النهاية، أصر مرسي على تولي البرلمان عملية تأسيس الجمعية الدستورية، التي أنتجت مشروع الدستور الذي تمت الموافقة عليه في ديسمبر 2012.

وكما هي الحال عادة في الثورات السياسية، فقد تدهور موقف مصر الاقتصادي من سيئ إلى أسوأ في خضم هذه الصراعات على السلطة. إن الثورات تميل إلى مواجهة الحكومات الجديدة بمطالب اجتماعية متصاعدة (زيادة الأجور أو زيادة الإنفاق الاجتماعي على سبيل المثال) في وقت يتسم بهروب رؤوس الأموال، ونشوء الاضطرابات المالية، وتعطل الإنتاج. وفي حالة مصر، انكمش قطاع السياحة بشكل حاد بعد الثورة، وارتفعت معدلات البطالة إلى عنان السماء، وانخفضت قيمة العملة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل خطير.

لا شيء من هذا مستغرب، ولا تستطيع أي حكومة جديدة تفتقر إلى الخبرة وثقة السوق والسيطرة الكاملة على مقاليد السلطة أن تتصدى بنجاح إلا لأقل القليل منه. وبالتالي فإن أطرافاً خارجية لعبت تاريخياً دوراً حاسماً في هذا السياق، فهل تمد الحكومات الأجنبية وصندوق النقد الدولي الحكومة الجديدة بالتمويل اللازم، أم أنها ستتركها لتتعثر وتغرق في دوامة انخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم؟

هنا أظهر الغرب الضعيف- الممزق بين خطابه الديمقراطي وكراهيته للإسلاميين- أوراقه، وكانت النتيجة المواربة والتأخير، بدلاً من الالتزام والمساعدة، فأجرى صندوق النقد الدولي محادثات مع الحكومة المصرية لعامين ونصف العام منذ الإطاحة بمبارك دون إقراضها سنتاً واحداً، فختم على مصير الاقتصاد المصري وأسهم ذلك في اندلاع الاضطرابات الشعبية ثم الانقلاب الأخير.

ويبدو من التقارير الصحافية أن الغرب أعطى المؤسسة العسكرية المصرية الضوء الأخضر أخيراً للإطاحة بمرسي، وإلقاء القبض على قادة جماعة "الإخوان المسلمين"، وقمع الإسلاميين، ويكشف إحجام الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الوقوف في صف قادة مصر المنتخبين، أو حتى تسمية الإطاحة بهم "انقلابا" (وبالتالي حماية التدفق المستمر من الأموال الأميركية إلى المؤسسة العسكرية المصرية) عن ميل الغرب إلى الانحياز إلى الأطراف المناهضة للإسلاميين في تقويض الديمقراطية عندما يجد الجد. وبطبيعة الحال، فعل الغرب ذلك باسم الديمقراطية، على الطريقة الأورويلية الكلاسيكية.

بيد أن الانقلاب والرضا الغربي عنه (إن لم يكن التواطؤ فيه) قد يدمر مصر، فالإسلاميون ليسوا جماعة سياسية هامشية وليسوا قوة إرهابية، بل إنهم يمثلون جزءاً كبيراً من سكان مصر، وربما النصف أو أكثر، وهم بالتأكيد القوة السياسية الأفضل تنظيماً في البلاد. وسوف تؤدي محاولة قمع جماعة "الإخوان المسلمين" وحرمان مرسي من الرئاسة التي انتخب من أجلها إلى أعمال عنف واسعة النطاق وخنق الديمقراطية في الأرجح، مهما حاول الغرب والمصريون المناهضون للإسلاميين تبرير أفعالهم.

عند هذه النقطة، فإن المسار الصحيح الذي ينبغي للغرب أن يسلكه يتلخص في دعوة المؤسسة العسكرية في مصر إلى إعادة تنصيب مرسي؛ وتقديم التمويل العاجل للمساعدة في تثبيت استقرار الاقتصاد المصري؛ ودعم التعددية الحقيقية، وليس ذلك النوع الذي يرتد إلى الانقلابات العسكرية عندما تفرز الانتخابات نتائج غير مريحة.

إن التعددية تعني قبول القوة التي تتمتع بها القوى السياسية الإسلامية في مصر الجديدة وغيرها من بلدان المنطقة. وما لم يحدث ذلك فمن المرجح أن يصبح الغرب في نهاية المطاف شريكاً في الدفع بمصر إلى دوامة هابطة من العنف والانهيار الاقتصادي.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسة الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا. وهو أيضاً المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالأهداف الإنمائية للألفية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»