سليمان الفليح يفتح بابه الأخضر الأخير في هذه الحياة... ويرحل!

Ad

سليمان الفليّح...

الذي لم يكن ليأنس لقبضة مكان لمدة تتجاوز قصيدة شعر أو شغب طفل أو سالفة من سوالف البدو!

هذا القَلِقُ...

سريع الضجر...

لا يكاد يحتويه جسدُه النحيل،

يتعامل مع الزمن كذئب متوحش واللحظة... فخّ!

يتحاشى الوقوع في أسره...

وإذا ما حدث ذلك ملأ الفضاء عويلا يُغَنّى على الربابة!

الربابة آلة الدلال الصفراء الوحيدة، والتي يحبّها سليمان،

كنت أشاغبه أحياناً بها وأقول:

من أين لك كل هذا القلق، وأنت تحب الربابة... رمز الرتابة!

فيبدأ سيل شتائمه المسجّعه!

إلى أن يتّهمني ببلادة الأحساس لأنني لا أتفاعل مع قلقه أو تلك الربابة بما يليق من الضجر!

وبالرغم من قلقه هذا الذي لا يجعله يطيق ارتداء ثياب لحظه، إلا أنه من ذلك النوع الذي لا يمكن أن يزول من ذاكرة أي لحظة يمرُّ بها!

لا يمكن للحظة تجمعك بذلك السليمان إلّا وتبدي لك جمالها... ولو بعد حين!

أنا دائماً أثق بهذا، وهذا سرّ محبته لي، الذي يظن أنه يخفيه عنّي، وأنا لا أحرص على اكتشافه!

لأنني ببساطة... أعرف أنه يعرف أنني أفهمه!

قلت له مرةً:

"أنا أقدر أقرأ خارطتك النفسيّة من "عقالك الميّال" يا بوسامي"!

رمقني بتعالٍ مفتعل، مع إغماضة قليلة في إحدى عينيه، ساحباً نفساً عميقاً من سيجارته، وقال ساخراً:

"تفضل علينا... أخبرني كيف؟!"

قلت:

"كلما زادت درجة ميلان "عقالك" زادت المسافة التي نحتاج أن نردمها معاً بين عقلك وجنونك تلك اللحظة وقلت الله يعين".

فلتت من بين شفتيه ابتسامة كبيرة بالرغم من شواربه الطويلة التي تحاول أن تخفي دائما ما لا يريد قوله صراحة، بما في ذلك الكلمات!

وحاول أن يداري وجهه بلثام الشتائم! وضحكت!

سليمان الفليّح...

هذا القَلِق...

أهدى باقة من الخزامى والعرفج الجاف لربطات العنق الأنيقة ففرِحت بها، وفرّغت بعض الفازات من النرجس لوضعها بدلاً منها في الصالونات!

جَمَع ما تيسّر لصوته من حداء الرعاة، وقطا الغدران، ورائحة البنّ الأسود في الخيام، ليصبح صوته "بيت شَعَر" تستظل بأغنيته القوافل، ويقصده كل صوتٍ مشرّد،

يتسع قلبه للمدى، ولأغنية يعرف مسبقاً أنها.. لن تكتمل!

التقينا معاً تحت سقف قصيدة كتبتها له... وليس عنه،

حينها لم تكن لدي أصابع، إنما كنت أجيد عدّ النجوم،

كان الشاعر والكاتب سليمان الفليّح أحد تلك النجوم في عيني...

كان حينها يكتب زاوية بجريدة السياسية الكويتية، بعنوان "هذرولوجيا"، وكنت متابعاً لها، ومعجباً بالقصائد التي أقرأها له في الجرائد، أو تلك العالقة بذهني من ديوانه "أحزان البدو الرّحل"، أو بعض قصائده التي يحفظها بعض أصدقائي في الجامعة، والذين أصبحوا لاحقاً أصدقاءنا المشتركين.

وفيما عدا ذلك لم أكن أعرفه،

في ذلك الوقت حدث أن مُنع سليمان الفليّح عن الكتابة في الجريدة لمدة تزيد على  السنة تقريباً... وتحديداً للحدّ الذي اعتاد فيه الناس غياب "هذرولوجيته"!

سألت أحد أصدقاء الجامعة عن سليمان الفليح، فأخبرني سبب إيقافه عن الكتابه (لا أذكر السبب الآن) إلا أنني أذكر أنه آلمني، وكتبت قصيدة بعنوان "أنت المسيح"... ونُشِرَت في إحدى الصحف، وقرأها سليمان وبحث عني إلى أن التقاني!

لم أكن لأصدق لحظتها أنني في حضرة أحد أشهر الشعراء الصعاليك العرب في ذلك الوقت.

في ذلك الوقت لم يكن سليمان الفليح بالنسبة لي يعني أكثر من ذلك، ليس بخساً بقدره ولكن لأني لا أعرفه.

وبعد أن عرفته، عرفت أن ما خفي كان أجمل.

سليمان الفليّح:

إنسان حمل البداوة في قلبه، ولم ينْتَعِلها!

وربما لهذا السبب فتح بابه الأخضر الأخير ومضى، قلقٌ على "عقاله" المائل وربابته، بعض ما تبقى من بداوته!