في قصيدة «ليلة في العراق» تعاودُ السياب صورةُ البرق، الذي يستثير فيه من جديد الذاكرةَ المثخنة بالأذى والألم:

Ad

«وألقى البرقُ، أرقصَ، ظِلَّ نافذتي على الغرفة

فذكرني بماضٍ من حياتي كله ألمُ.....

وألهب كل ألواح الزجاج الزرقِ في الظلماء

فنوّر غرفتي إيماض برقٍ ثم رش مدارجَ الأفقِ

نثارٌ من حطام الرعد وارتعشت له الأصداءْ...»

في إحدى قصائد محمود البريكان برقٌ يشبه برق  السياب هذا. يومض خاطفاً ليكشف عن عالم آخر مجهول غارق في العتمة:

«يُطلق البرقُ سحنتَه في عروق السماء

يكشف البرقُ هاويةَ الكون، يرسمُ في الليل وجهَ العدم

ويخلّفُ ظلاً من الخوف أزرق...».

إن ضوء البرق الخاطف يكشف عن «هاوية الكون» وعن «وجه العدم»، ثم يخلف على أثر هذا الكشف «ظلاً من الخوف أزرق» على الصفحة الانسانية العارية. والمدن النائمة في العتمة تستحيل تحت إضاءته المفاجئة «شواهدَ من مدنٍ دارسة». ثم تستأنف تنفسها في العتمة ثانية. إن الطبيعة الأم تمارس تعريةَ قاسية لابنها الأعزل، العاجز عن أي ردة فعل.

في قصيدة أخرى بعنوان «عالم في البرق» يهاجمنا المشهدُ المريع ذاته، بقوة بصرية استثنائية لا تختلف عن قوة السياب البصرية إلا في الظاهر ولكنها تتفق في الجوهر. يلوح في آخر بيت من القصيدة «ارتجافُ كف تردُّ الستار على النافذة». أي مشهد للتعرية الخاطفة يثير الفزع؟

بين فاعلية برق السياب وبرق البريكان في التعرية اختلافٌ في الظاهر، واتفاق كامن في الجوهر كما أشرت. صحيح أن كليهما ميتافيزيقي، يربط الأرض بما وراءها، والمعلوم بالمجهول. وصحيح أن كليهما متوهج بالرؤيا، ومحترق بها. إلا أن احتراق الأول قلبي، والثاني احتراق عقلي. في احتراق الأول دعوةٌ للمشاركة حارة، وفي الثاني دعوة للعزلة باردة. في الأول إثارة للتعاطف، وفي الثاني إثارة للفزع.

إن برقَ أبي نؤاس يختلف عن برق أبي العلاء، وهذان يختلفان عن برق السياب وبرق البريكان. فبالرغم من أن جميع البروق تنعكس في مشاهد بصرية ملموسة، فإن برق أبي نؤاس لا يهدف إلا إلى مساهمة حسية: تكثيف تلألؤ الخمرة بحيث تُضاء بها الأيدي والأقداح. في حين يبدو برق المعري والسياب والبريكان وكأنه يهدف في إضاءته الخاطفة إلى الكشف عن عالم داخلي في أعماق الانسان، أو ماورائي خلف حجاب الظواهر. إن هذا الضوء الأخير سيكولوجي، لا يُعنى كثيراً بالهدف الجمالي. بل لعله لا يبالي إذا ما كشف عن تفاصيل قبح مثيرة للفزع.

ضوء المصباح اليدوي، الذي يأخذ دور البرق، بفعل الكشف المفاجئ، يرينا في قصيدة «الكهف العميق» للبريكان: «رسمَ الوحش الرابض في الصخر/ حدّق أول إنسان في وجه الوحش/ اختلج الوحش وحدق في وجه الانسان». هذا الضوء يتسلط على ركن في أعماق الكهف، على ركن في أعماق الداخل الانساني، العالم الباطن الذي لا يُطل عليه الانسان أبداً، وإذا ما أطل ففي لحظة نادرة مفزعة. عالم الماضي المجهول حيث الانسان كتلة غرائز لا يشكل إنساننا الحديث إلا قوة قامعة له، لوحش الغرائز الرابض فينا.

في هذه الدراما السيكولوجية المكثفة يكمن ليل «التعبيرية»، الذي طوى بين جناحيه «الفاوستييْن» مداراتٍ بعينها من الشعر والرسم والموسيقى العالمية منذ أمد، ولأمد طويل. و«التعبيرية» في النهاية ذاتية مكثفة، لا تتوفر إلا لدى الفنان «الانطوائي» Introvert، الذي يتجه في التبصر إلى داخل ذاته، في مقابل «الانبساطي» Extrovert، الذي يولي خارجاً، والذي يمكن أن تتعرف عليه في «الانطباعية» حيث ضوء النهار، مقابل ظلمة الليل في الأولى.

بين «الانطوائي» و«الانبساطي» يتوزع معظم الابداع الخيالي، في الأدب الموسيقي والفن، على امتداد العصور. وبينهما يعرف المبدع، أو يتوجب عليه أن يعرف بحكم التساؤل عن الهوية المبدعة، إلى أيهما سيتجه. ثم إلى أيهما ينتمي في مرحلة النضج. لأن هذه المعرفة بالهوية المبدعة هي التي تشحذ مجساته، في استقبال الخبرة، داخلية كانت أم خارجية. وتعينه على استلهام مصادر الإضاءة، إضاءة النهار الخارجية أو إضاءة عتمة الليل الداخلية، إضاءة البروق.