العروس!

نشر في 11-08-2013
آخر تحديث 11-08-2013 | 00:01
 صالح القلاب عروس بكامل زينتها ودلعها وغنجها، جرى وضع الكحل في عيونها وسط الزغاريد والهتاف وإطلاق الرصاص، ومع أنها لم تكن بحاجة إلى هذا فقد سارعت إحدى النساء إلى عجن بمقدار حفنتين من الحناء كان "الحجي" قد أحضر مقدار رُبعية منها من "خيبر" التي اندمج اسمها بـ"المدينة المنورة" والتي اعتادت نساء القبيلة على التغني بتمرها اللذيذ وبخاصة في أعوام المَسغبة وسنوات المجاعة.

 

يا تمر خيبر، يا دوا الوجعان.

أمضت تلك الليلة بعد ZAعشاء سخي في مكان هُيِّأ لعروس عزيزة وحرص "الحجي" على تفقدها أكثر من مرة حرصاً على أن تكون في لحظة زفافها في كامل إشراقتها وبهائها، وفي الصباح وكما جرت العادة ألبسوها قلادة من الودع أُحيط بها عنقها الطويل وأُحيط رأسها الصغير بـ"سفيفة" من الصوف المغزول جيداً والملون بـ"المغْرة" و"الكركم" والحناء، ثم أخذوها لـ"التَّبرُّك" إلى نبع "الطْويفريَّة" الذي يقال أن رسول الله عليه السلام شرب من مائه، وفي طريق العودة حرصوا على أن يمروا بها بمقام حدد و"حوطة" الشيخ زيدان.

كل شيء جرى على ما يرام وقبل أن يأخذوها إلى حيث سيتم إجلاسها انتظاراً للحظة الحاسمة جاء "الحجي" لتفقدها، مرَّر يده على عنقها، أمسك بالجديلة الصوفية التي يتداخل فيها غزل صوف الغنم بغزل شعر الماعز الأسود ثم جذب رأسها نحو الأسفل إلى أن أصبح بموازاته وطبع على خدها الأسيل قبلة طويلة، تذكر خلال الثواني التي استغرقتها القبلة والدته التي رافقها في رحلة الحج الى بيت الله قبل عدة أعوام والتي فقدت خلالها فردة من حذائها الأنيق الذي كان ابتاعه لها من دكان "البُنيّ" في جرش وبقيت الأخرى يحتفظ بها وكأنها أيقونة مقدسة.

تراجع إلى الخلف بضع خطوات وهو يمسح دمعة اعتادت أن تتسلل نحو شاربيه كلما تذكر والدته، التي لم تفارق صورتها بورعها ووقارها خياله ولو ليوم واحد، ثم بعد أن أصبح في المكان المناسب تماماً أومأ لمجموعة التنفيذ بأن تأخذ العروس التي ستُهدى في ضحى ذلك اليوم إلى روح والدته (أم خليل) وأن يتم إجلاسها فوق الطبقة الصخرية التي تبلغ مساحتها نحو خمسة مترات مربعة.

أُنيخت الناقة "البكر" في المكان المخصص تماماً وأخذ "الجلاوزة يقيِّدون رجليها الخلفيتين ويديها الأماميتين بينما كان الجزار واقفاً يلوِّحُ بـ"هوشانيته" الطويلة مخالفاً بذلك أوامر "الحجي" وتعليماته، تقدم أحد الجلاوزة وأمسك بمقودها بكلتا يديه وجذب، بعنف وقسوة، رأسها نحو مؤخرتها إلى أن أصبح مشفراها عند أسفل ذيلها، أخذت تصدر أنيناً يقطع نياط القلب وتذرف من عينيها الجميلتين المكحلتين دموعاً سخية، ثم وعندما غدا كل شيء مهيئاً اندفع "العشماوي" نحو صدرها واستراح بيده اليسرى على غاربها ودفع "هوشانيته" عبر نحرها دفعة قوية أتبعها بدفعات متلاحقة وبنفس القوة وسط زغاريد النساء المتجمعات في بيت الشعر المجاور وهمهمات وزمجرات الرجال الذين جاءوا وهم يحلمون بحشو أجوافهم بلحم لذيذ طري.

حاولت المسكينة القيام بأي حركة للدفاع عن نفسها لكنها لم تستطع فالقيود كانت قد أصابتها بشلل تام، شخب الدم من نحرها بغزارة نبع متدفق من سفوح جبال "جلعاد"، أصابت جسمها المكوم فوق الطبقة الصخرية رعشة عابرة ثم انتهى كل شيء وبدأت عملية "السلخ" التي اشترك فيها كل "الجلاوزة" الذين جاءوا في ضُحى أول يوم من أيام عيد الأضحى بكل أمواسهم وشباريهم وفؤوسهم وسكاكينهم وهكذا وفي أقل من نصف ساعة تحولت الناقة "البكر"، التي كانت قبل ساعة واحدة تشبه عروساً تقف على أبواب "برزتها" بكل زينتها، إلى كومة من اللحم المغلف بطبقة دهنية بيضاء رقيقة.

كان "الحجي" من مكانه يتابع بعينيه الثاقبتين زمر الرجال الذين تحولوا إلى قطعان من الذئاب التي تحاول الاقتراب من فريستها بإصرار ووجل، تنحنح في بادئ الأمر ليشعرهم بوجوده، لكنهم استمروا يتراجعون خطوة ويتقدمون خطوات، تنحنح مرة أخرى ولما لم يلتفت إليه أي منهم صرخ بأعلى صوته: "وحِّدوا الله"، وبالطبع فإن أياً منهم لم ينطق بالشهادة وتابعوا عمليات الكر والفر عندها قال بصوت مجلجل: "اسمعوا، إن من يمد يده نحو هذه الناقة سأقطعها، إن اللحم ليس للشبع، إنه لقضاء شهوة ولذلك فإننا سنقوم بتوزيعه محاصصة وسيأخذ كل واحد منكم نصيبه وفقاً لعدد أفراد عائلته".

قال أحدهم وهو يُقدِّم رجلاً ويؤخر أخرى:"اسْمع، اسْمع، اللحم ليس للشبع وإنما لقضاء شهوة، لقد انتظرت هذا اليوم طويلاً وصُمْتُ يومين من أجله، والله لن أغادر إلا بعد أن آخذ ما يملأ بطني وبطون أولادي"، تسلل في هذه الأثناء أحدهم نحو كومة اللحم الشهي، وبموسٍ صغير هاجم الناقة الباركة لكنه لم يغنم إلا بما هو بحجم بيضة حجل فرَّ به هارباً وسط زعيق الرجال وصيحاتهم وضحكاتهم المصطنعة الكاذبة المجلجلة.

اخترق "أبو العادات" الصفوف وهو يلوح عالياً "ببلطة" خطف بريقها العيون تحت أشعة الشمس الساطعة، ساد صمت كصمت أهل الكهف، تسمَّر الرجال في أمكنتهم وكأن على رؤوسهم الطير وتقدم هو نحو الناقة "الباركة" المسلوخة بخطى ثابتة، وقف إلى جانبها مباعداً بين قدميه ثم رفع "البلطة" المُجربة إلى آخر مدى وصلت إليه يده ثم هوى بها بسرعة البرق مستهدفاً المنطقة الواقعة أمام "السنام" فغاصت "البلطة" في كومة اللحم حتى لامست شفرتها الطبقة الصخرية.

لم يلتفت إلى الهمهمات الخافتة ولم يكترث بصرخات التحذير التي أطلقها "الحجي"، وفي أقل من لحظة أعاد البلطة إلى جرابها المعلق في حزامه، وهوى بكلتا يديه على ما استهدفه من لحم الناقة ورفعه إلى الأعلى وانطلق هارباً بثلثي لحم "الضحية" بينما أصيب باقي الرجال ومعهم "الحجي" بالارتباك، ثم بعد أن تخلصوا من هول الصدمة اندفعوا نحو باقي ما تبقى وأخذوا يتناهشونه كما تندفع بنات آوى لتناهش ما يخلفه أسد هصور من ثور افترسه.

back to top