لم أرَ مدينة «فيينا» بعد، لكنها بالنسبة لي مدينة هايدن، موتسارت، يوهان شتراوس، مالر، شونبيرغ، بيرغ، وعشرات من الموسيقيين العظام الآخرين الذين أعرفهم، القادرين على تقديم المدينة إليك في هيئة مأدبة من أحلام مُلهمة. المعرض الجديد في «الغاليري الوطني» يحاول من جانبه أن يقدم مدينة فيينا عبر فن الرسم، وفن البورتريت بالذات: «مواجهة الفن الحديث، البورتريت في فيينا 1900». والعنوان تقريبي، لأن اللوحات المعروضة تنتسب إلى مدى زماني سابق ولاحق لهذا العام.

Ad

الفنانون في معرض هذه المرحلة عظام لا شك، لكن المعرض يريد أن يقدم هوية المدينة، لا الفنانين، بالدرجة الأولى. هوية المدينة عبر وجوه سدنتها، من الطبقة الوسطى المتنفذة في السلطة أو في الحياة الاجتماعية، عبر عدسة فنانيها. كانت فيينا، في مرحلة تحول القرن التاسع عشر إلى العشرين، عاصمة إمبراطورية متسعة الأطراف تشمل هنغاريا، بوهيميا، كروشيا، سلافونيا، توسكاني... وأكثر. ذات أعراف اجتماعية عريقة وثقافة مركبة، فهي مدينة الموسيقى والأوبرا والمسرح وحفلات الرقص، وهي مدينة الازدهار الصناعي والتجاري والمالي بفعل جمهرة اليهود المعنية بشؤون المال. ولذلك كانت مركز هجرات الطامحين للثروة والجاه من كل الأجناس والأديان. لكنها كانت بنفس القدر، وربما نتيجة لذلك، دولة بوليسية، محافظة بتطرف، معبأة بمعاداة السامية والحط من قدر المرأة. ومعدلات الانتحار، وخاصة في أوساط اليهود، كانت مرتفعة جداً.

جدران البيوتات الأرستقراطية العريقة في فيينا عادةً ما تكون مزدانةً بوجوهها، ووجوه الأسلاف عبر فن البورتريت الكلاسيكي. أما هذه الطبقة الوسطى حديثة النعمة، عظيمة الثروة، فقد تكون لديها من الألقاب ما يكفيها، لكنها لا تملك خلفية طبقية تعزز هذه الألقاب، والخلفية لا تُخترع، كما يقول أحد نقادها. والإجراء الأكثر أماناً هو أن يُكلف رسامون معروفون برسم بورتريهات مؤثرة لهم لتحتل جدرانهم. وبفعل هذا التوجه نشط فن البورتريت في فيينا، وجاءت فكرة هذا المعرض. ولا نغفل أن توجه هذه الطبقة في البحث كان مقتصراً أول الأمر على أسماء الرسامين الكلاسيكيين، وهم قلة. لعل أبرزهم آنذاك كان «أميرلِنك» و»ماكارت». إلا أن الذي بعث الحياة في هذا العرض هو إسهامات الرسامين المحدثين، والطليعيين في هذه الحداثة، من أمثال «كلِمت»، «شيلَه»، «كوكوشكا»، وآخرين. لقد كان هؤلاء خيار الطبقة الوسطى اضطراراً، حين لم تجد عنهم بديلاً من الرسامين الكلاسيكيين.

الحياة التي أشرت إليها في لوحات الحداثيين إنما تنبعث من رغبة الفنان في إظهار ما خفي من الشخصية على المشاهد، أو حتى ما خفي على الشخص المرسوم ذاته. في حين يسعى فنان البورتريه الكلاسيكي إلى إبراز ما تطمح الشخصية المرسومة أن تُبرزه، أو تتبجح به، أمام المشاهد. وبينهما فارق ما بين التعامل الصادق والتعامل المخاتل. ولذلك نجد لوحات شيله، التي اقتصرت على شخصه، ولوحات كوكوشكا التي صورت آخرين تحاول عنصر التشويه في الخطوط والألوان والنِسب. التشويه المثير لردود أفعال المشاهد، في عواطفه وأفكاره. حتى لتبلغ الشخصية في لوحة كوكوشكا عن «لوت فرانزوس» حدّ استثارة استنكار أحد النقاد بحديثه «عن رائحة كريهة منبثقة عنها، كما لو أن جسدها هو المتعفن».

كان كوكوشكا في الثالثة والعشرين حين رسم لوحة «هانس وزوجته»، مثيراً لدى النقاد تساؤلات حول الهوية اليهودية، والتوتر الجنسي، والاغتراب. إلى جانب ارتيابهم بشأن جنونه هو. هذا الجنون الذي يمس سمعة شيله أيضاً. فلوحاته عن شخصه لا تخرج عن دائرة التعبير عن الهوس الجنسي المضطرب والمراهق.

على خلاف هذين يظهر لنا كلِمت في أبهى فرشاة لفنان، حتى وهو يرسم طفله الميت، أو لوحة «آمالي على فراش موتها». لقد بدأ كلاسيكياً متقناً، ثم تطور باتجاه صياغة للشخوص، والنساء خاصة، تنسجم مع رؤية حلمية مُترفة بالألوان، وزحمة الزخرف المُبهج.